مساحات القرّاء

صمت امرأة امام المرآة..

تعتزل المرأة انوثتها في ظل زحمة الحياة المفروضة، التي لامست واقعها المؤلم البعيد عن تطلعاتها وأحلامها قبل أن تخطي خطوة نحو الحياة الفعلية عند اختيارها رفيق دربها، الذي اختارته بطيش الصبا.

هي لم تعتزلها عن ارادة وقناعة، لقد اتى اعتزالها على مراحل متعددة، تبدأ بانعدام احساسها عن اهميتها كأنثى تستحق الاعتناق، مرورا بمقارنات تافهة مع نساء من مختلف الأهواء، وانتهاءً بفقدانها الحنان والاهتمام والحب، لتتحطم معالمها كاملة، وتدخل في طي النسيان.

حيث تنسى تفاصيلها، وتمشي بخطوات تعكس روحها المثقلة ويغدو ذاكرتها متعبة ومشوشة.

لقد نسيت كيف تعيش كأنثى، كيف تستعمل الكحل لتظهر جمال وبريق عينيها،تغافلت عن حاجتها ككيان امرأة تستحق الاعتناق،تحولت الى آلة تعمل فقط لتؤمن حاجات اسرتها المادية والمعنوية،متقمصة كافة ادوار المرأة كأم وأخت وابنة وصديقة وزوجة باستثناء دورها اتجاه نفسها، نسيت أن تعتني بها وتحافظ على نضارة روحها وطفولتها التي  قمعته.

تعلمت أن تعطي بسخاء لعائلتها على حساب راحتها، اخفت مرضها بالوقت الذي كان البكاء واجباً، اظهرت القوة الوهمية في حين كان قلبها يرتجف كقلب طفل، ابتسمت ببسمة اللامبالاة امام جرح اصاب قلبها وبقي ينزف ويئن بصمت متقن لأيام وليالي، عجز الزمن عن ترميمه.

تتكون هذه الترسبات محدثة فجوة كبيرة بينها وبين الحياة، وتغييرات جذرية وعميقة في تضاريس روحها وكيانها، لتتحول الى ركام امرأة جارت عليها الليالي وتعاقبت،عتّق الزمن احمرار دمها ثم على اطلالها ارتشف خمرها .

هي امرأة من مجتمع يعاني الانحدار الثقافي والفكري،تتنازل فيها عن كافة حقوقها وأهوائها لصالح الطرف الآخر بموجب عقد وهمي،حيث ترفع الاحلام الى رفوف الذاكرة المنسية وتحل مكانها ذكريات زمن كان فيه الحلم مباحا”،تستعيدها في خبايا الليل، تسابق الزمن لتسلب منه ساعات قليلة لنفسها،ترسم احلامها على جدرانها الباردة وتطلق العنان لروحها معانقة الحياة،الحياة التي تجسدها في حلم او وهم او رواية تلتجأ اليه منعتقة من ثقل المادة،بعد يوم شاق قضته في خدمة الجميع إلا ذاتها،وتمتص تراكمات يومها بدموع خفية على وسادة لم تلبث أن تجف.

تمضي فيها السنين وهي في طي النسيان مختزلة كل امنياتها واحلامها باولادها، وكأنها استقالت من الحياة لأنها لا تستحقها، ووضعت كل امكانياتها لتحقيق حلم اولادها، بعد أن يتداركها العمر بغفوة منها سالبا اجمل سنين عمرها.

تقترب يوما من المرآة التي طالما تهربت منها لصدقها بدرجة الوقاحة الجارحة احيانا، لكن كان عليها أن تواجه أكبر مخاوفها حتى تدرك عمق الحقيقة.

وترى فيها امرأة غريبة الملامح بعيون فارغة، وشفاه متقصفة؛ امرأة شاخت قبل اوانها وقد غط الشيب شعرها الذي نسيت أن تعتني به لسنوات بعيدة، منذ أن امتزج حبر قلمها بالحليب الأبيض الذي  ارضعته لأطفالها في كآبة بعد الولادة، لم يحتويها احد سوى نفسها،معلنة بذلك الحداد على روحها.

بعيونها رواية لم تشهد النور، بفمها المتقصف كلمات تعجز عن نطقها.

تقف طويلا متأملة، لم ترى سوى قطعة من المآسي المرتجلة تضغط على ذاكرتها المتعبة للتعرف على نفسها،تحدق بها من خلال هذه المرآة البغيضة، لكنها عبثا تحاول.

لم تتذكر سوى قلادتها القديمة المرصعة بحجر الفيروز، لازالت جميلة لم تفقد رونقها،وحدها كانت شاهدة على الحياة، وحدها استمعت الى انين قلبها عند الالم. هذه القلادة لي، ولكن هذه المرأة ليست أنا، قالتها بعيون ندية قيدت الدمع الذي أرادت ان تتحرر بقوة.

وبدأت الاسئلة تتسابق في حجز مكان لها في العقل الذي بات عاجزا عن تلقي اشارات الحواس الفوضوية في ظل عبثيتها المتقنة..لينجح بعضا منها بالوصول الى الواجهة  الامامية بجدارة :

_من انا ?

_ما الجرم الذي اقترفته بحق نفسي ?

_وماذا بعد ?

لقد تعلمت متأخرة ككل النساء ان لا احد يبقى لها سوى نفسها، وأنهم عابرون في حياتها،حتى اولادها سيحلقون بأجنحتهم التي اكتملت من أجنحتها

_ كم ظلمت نفسي ? بأي حق انتهكت كل حقوقها وتقاعست عن واجبي اتجاهها?

_اين انا من الحياة الآن ?

-ماذا لو تمردت نفسي وتركتني على ناصية الحياة تحت شجرة عارية تخلت عنها اوراقها وجف جذورها ?

كانت لحظة صمت امرأة امام المرآة.

بكل ثقل الحياة ،صمتت الملامح والعيون،والقلب بات ينبض بخجل،لتدخل مجددا في حدود اللازمان واللا مكان وقد نال منها العجز والضعف.

 

ميرنا غالي

3 thoughts on “صمت امرأة امام المرآة..

  • ميرنا أجمل الارواح واغلا توأم لنفسي…..نعم ظلمنا انفسنا ….قلمك رائع مثلك

  • ميرنا توأمي الغالي بعثراتك وكلماتك جميله كروحك غاليه كقلبك…..بحبك

  • فاض حبر قلمك على الورق فأبدع صمتا ينضح به قلب كل انثى
    بالتوفيق والنجاح والتألق المبدعة ميرنا

Comments are closed.