مساحات القرّاء

بتوقيت القدر – ميرنا غالي

فردت شعرها ليداعبه الهواء وأدارت وجهها للشمس المحرقة معلنةً بداية جديدة، تخطها بقلم الحياة على صفحات عمرها، تاركة خلفها كل ما تملك من ذكريات وأماني وأحلام.

خرجت من قلب صراع دامي لم تكن طرفاً فيه، وفي الصراعات الكبيرة كل شيء مباح، اغتيال الاحلام ؛ اغتيال الطفولة ؛ سلب الحياة ؛ الموت ؛ القهر ؛ الحزن ؛ الألم ؛كل شيء مباح بالخفاء وبالعلن، لتتحول حياة البسطاء إلى مجرد أرقام واحصائيات تقابلها ادانات خجولة ان وجدت.

هناك على ناصية الأمل تركت العشاق تحت شجرة الياسمين الملطخة بالدماء بدل من قطرات الندى، يتعهدون ويحلمون، تركت أطفال حارتها يلعبون على ركام منازلهم،مرتلين تراتيل الطفولة والسلام.

في تلك الأزقة المهجورة.

كانت شاهدة على ضحكات الصبايا وهن ينسجن أحلاما من خيوط الشمس المتسللة من شقوق النافذة المحطمة

كانت شاهدة على حفل زفاف عروس تزف على عريسها فوق حطام وركام منزلها الذي طالما حلمت به.

وبابتسامة أمل وسخرية وثقت هذه اللحظات بصور لم تكن تعرف أنها ستكون اللقطات الأخيرة مع حبها.

لازالت تشعر بحرارة القبلة التي طبعها زوجها على جبينها بذلك اليوم المشؤوم،قائلا:

_انتبهي لنفسك وللأولاد.

_ماذا بك??

قالتها والخوف اجتاح كيانها.

_لم أسمع منك هذه الكلمات قط،وليس من عادتك هذه اللغة.

خرج بابتسامة غريبة لم تراه من قبل،ابتسامة فيها قوة لمواجهة حتفه في زقاق مدينة الياسمين التي فاحت فيه رائحة البارود بدل من رائحة البخور.

 

كتلاطم الامواج في عرض البحر ،تتلاطم مشاعرها وذكرياتها على شط الذكرى،متسابقة؛ لاهثة بتدافع بعبثية متقنة، وبمسمفونية الحياة تحط اسرارها فيه،تحكي حكاياها وتخفيها بالأمواج ليحط رحاله بالرمال الندية المشبعة بالحياة.

مع كل موج ارسلت حكاية ألم وتعب وحزن،وقصة حب كان آخر ما بجعبتها بتلك اللحظات التي عاشتها بفوضى حواس .

لم تكن تحمل معها سوى حقيبة صغيرة وضعت فيه كل الهدايا الرمزية التي تربطها بماض جميل ،والذي تم رميها عند اول موجة عاتية.

وحمل ثقيل من الذكريات في ذاكرتها المتعبة التي حاولت التخلص منه في رحلتها بعرض البحر ،لكن عبثا حاولت،ذكرى الحياة لا تسعه المحيطات ولا البحار..

حاضنة أولادها،سارحة بالحياة التي تركتها،حارقة كل ما تبقى لها من اشرعة خلفها…

بعناية الهية وصلت الى ضفة الحياة الأخرى،متسولة الحياة على أبواب إحدى الدول.

دائما للأقدار رأي مخالف لتطلعاتنا وأحلامنا فهو الوحيد الذي يمتلك قلم الحياة ليسطر لنا ما يحلو له من دروب ويجبرنا لاجتياز منعطفاته الوعرة برضا وابتسامة لنكتشف أن لا شيء مستحيل تحت أشعة الشمس،فالمرأة التي خرجت من الاعاصير ،حجزت مكانها جانب الشمس، مستهزئة بمآسي الحياة،لا بل بالحياة نفسها.

سأغلق باب قلبي على احزاني وآلامي لا وقت لدي للحزن.

سأطوي تلك المرحلة بأزقة النسيان.

الآن يجب استغلال عطاءات الحياة التي تبعثها لي برسائل مبهمة،ينبغي أن امتلك الدهاء في قراءتها ،وتحويلها إلى خارطة حياة استهدي بها عند كل تيه وضياع .

خاطبت نفسها بثقة وقوة.

استمدت هذه القوة من مارد قوي خرج من داخلها معلناً الجرأة للمضي بخطوات راسخة نحو الاستقرار.

للحياة بقية بكل ما تبقى لي من إيمان وإصرار لإكمال رسالتي التي عاهدت نفسي قبل حبي لأكمالها ،بتأمين الحياة لأجمل وارقى ما وهبتني الحياة.

 

ميرنا غالي