مساحة حرة

كيف يرى الجيل الجديد «التصحيح»؟

تمّ الأسبوع الماضي الاحتفاء بالذكرى السادسة والأربعين للحركة التصحيحية المجيدة التي قادها القائد المؤسس حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني عام 1970. وكانت أدبيات خطاب الاحتفاء في أغلب المؤسسات متشابهة مع الأعوام السابقة. ولا نستطيع أن ننكر وجود سردية أو إنشائية احتفالية نمطية جعلت أحياناً من التصحيح ما يشبه المادة الأرشيفية لكل من كان عمره أقل من خمسين عاماً.
ومع أن الأرشيف عامة هو ذاكرة الوطن، وهو الذي يغذّي الهوية والوعي والانتماء بالأصالة، إلا أن الأصالة إن لم ترتبط بالمعاصرة والتحديث تكون أضعف منعَة حين تتعرض لاختبار التحديات.
من الواضح بل من المؤكد أن الحركة التصحيحية أنجزت قفزات نوعية في البنى الوطنية الفوقية والتحتية، وجعلت لسورية دوراً فاعلاً وأساسياً في تعزيز الأمن القومي العربي والتضامن العربي ومؤسسات العمل العربي المشترك، وكذلك الأمر على الساحة الدولية، وقد تميّزت بالوعي الاستشرافي للمتغيرات الإقليمية والدولية ولمنعكساتها السلبية والإيجابية.
ومن الواضح والمؤكد أيضاً أنه كما حافظت الحركة التصحيحية على منجزات ثورة الثامن من آذار وطوّرتها، فإن قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي بعد المؤتمر القطري التاسع عام 2000 حافظت على منجزات التصحيح وطوّرتها بقيادة الرفيق الأمين القطري للحزب السيد الرئيس بشار الأسد بشكل يستحق المراجعة وإعادة القراءة المعمّقة ولاسيما في حديث سيادته في ختام أعمال المؤتمر عن الوحدة والحرية والاشتراكية، والأمر نفسه في المؤتمر القطري العاشر 2005 خاصة في طرح اقتصاد السوق الاجتماعي، حيث لاءمت قيادة الحزب بين العقائدية في الفكر والبراغماتية في الممارسة ملاءمة جعلت من سورية حتى عام 2011 كما قال كثيرون سويسرا الشرق.
وكالعادة كان المتآمرون على الحزب وعلى ثوابت سورية ومبادئها بالمرصاد، ولاشك في أن المؤامرة حققت غير قليل من أهدافها جرّاء العدوان على سورية. وفي هذه المعمعة تحدث الرئيس الأسد حديثاً نقدياً تاريخياً لعمل الحزب إلى صحيفة البعث في 10/7/2013 بيّن فيه:«كيف تحوّل الحزب من حزب نضالي إلى حزب مصاب بجزء من بيروقراطية الدولة جرّاء غياب التوازن في علاقة الحزب بالسلطة حيث أن كثيراً من البعثيين أرادوا أن تكون علاقتهم مع الجماهير عبر السلطة التنفيذية وليس عبر الأقنية الحقيقية وهي المنظمات والنقابات والمجتمع المدني. وأضاف: لا يمكن أن تُطوّر أداء أي مؤسسة أو حزب دون تصحيح الأخطاء ودون النقد الذي هو خطوة داعمة لتطوير الأداء، والمشكلة أننا لا نحب النقد وننظر إليه كنوع من الإهانة الشخصية، ولذلك فإن ثقافة النقد هي أحد أساسيات عملنا الحزبي وغير الحزبي». أتى هذا الحديث صبيحة تغيير قيادة الحزب. وقدوم قيادة جديدة لاتزال قائمة على رأس عملها.
الأربعاء الماضي أجرى التلفزيون السوري بمناسبة الذكرى 46 للتصحيح مقابلة مع الأمين القطري المساعد للحزب كانت ملأى بالمراجعة النقدية للعمل الحزبي قبل الأزمة وخلالها أو بنقد هذا العمل. أحد هذه الأسئلة كان حول ضياع عدد غير قليل من الحزبيين خلال الحرب على سورية، وما الجدوى من حجم التنسيب الكبير إلى الحزب؟. كان الجواب لافتاً يحمل في طياته نقداً لخطط التنسيب السابقة الفضفاضة، والتذكير بأنه “كلما ازداد عدد أفراد الأسرة صعُبَ ضبط مجموع الزيادة، ولهذا قامت قيادة الحزب مؤخراً بإجراء تثبيت العضوية”.
وللأرشيف وللذاكرة الوطنية فقد كان للأمين العام للحزب القائد المؤسس حافظ الأسد حديث متميز في هذه المسألة في ختام أعمال المؤتمر القطري السابع عام 1980 لم يُنشر؟! دافع فيه عن التنسيب الكمّي بعد أن ربطه بشرط الإعداد والمتابعة. لا شك في أن الظرف اختلف، كما أن العمل الحزبي من الظواهر السياسية والاجتماعية التي لا يصح فيها الاحتكام إلى التعميم.
اليوم، وبعد الحركة التصحيحية حدثت متغيرات كبرى دولية وإقليمية أبرزها ثلاثة: أولها انحلال الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية وغزو العراق للكويت عام 199٠. وثانيها المشهد الاحتجاجي العربي وتقدّم الإسلام السياسي وطفو الرجعية العربية والعثمانية وانتشار الإرهاب مطلع 2011. وثالثها المتوقع عام 2017 إثر الفوز المفاجئ لترامب في مناخ عالمي جديد أرعب الغرب والرجعية العربية وانهارت معه مصداقية مراكز استطلاع الرأي في الغرب بما يؤذن بانهيار الليبرالية الغربية وانهيار العولمة بالقومية الاقتصادية حيث عبّر فرنسيس فوكوياما عن ذلك بقلق وسبقه وتبعه آخرون كثر “فرئاسة ترامب ستكون نقطة تحوّل في النظام العالمي ونهاية العهد الذي كانت فيه الولايات المتحدة رمزاً للديمقراطية، وبدء عهد القومية الشعبوية”. وفي الوقت نفسه عنونت مجلة فورن أفيرز مقالها بـ «انتهاء حقبة النيوليبرالية وبداية حقبة القومية الجديدة» مضيفة: إن هذا تطورٌ طبيعيٌ كان متوقعاً ومتنبّأً به إلا أن ذلك لم يكن من خلال استطلاعات الرأي.
إذن فالجيل الجديد مرهق وينتظر من يتعب عليه ليصل إلى بر الأمان في معادلة قوامها الموازنة بين ماتفرضه الذاكرة الوطنية الأرشيفية من جهة، وما تفرضه وسائل التواصل الاجتماعي التي يصعب ضبطها من جهة ثانية.
ويزداد الأمر صعوبة مع الوقائع التي تفرزها التحديات الراهنة. وهذا يتطلب أن تكون روح التصحيح مستمرة، وهي بالأساس لم تكن شيئاً ثابتاً بحد ذاته بقدر ما كانت حراكاً مستمراً داخل الحزب والمجتمع والدولة.
وبالمحصلة: لابد من بناء مجتمع سياسي جديد يكون فيه حضور الأحزاب الوطنية والمنظمات والنقابات والمجتمع المدني، والأهلي أكثر فاعلية في مواجهة المؤامرة. هذا الحضور الذي طالما أكد عليه الرئيس الأسد في لقاءاته المتواصلة مع تلك المؤسسات.

د. عبد اللطيف عمران