مساحة حرة

الانتخابات الرئاسية الفرنسية ..هولاند مهزوم قبل أن تبدأ

 

تحديد المجلس الوطني للحزب الاشتراكي الفرنسي موعد إجراء الانتخابات التمهيدية بين 22 و29 كانون الثاني عام 2017 يبدو كأنه خطوة مفصلة على قياس هولاند، لأنها تمنحه وقتاً لاستعادة مكانته الحزبية المنهارة إذا ما قرر خوض الانتخابات الرئاسية، ومع ذلك لم يجرؤ على اتخاذ قرار الترشح وبادر إلى الإعلان عن عدم ترشحه لولاية ثانية في انتخابات الرئاسة الفرنسية المقبلة في نيسان من العام القادم ولم يأت هذا الإعلان طبعاً عن طيب خاطر من هولاند أو زهداً بالمنصب الرئاسي الأرفع بل جاء نتيجة دراية مؤكدة منه شخصياً بأنه سيهزم هزيمة نكراء ويتلقى خسارة ساحقة إن هو أقدم على الترشح بعد أن وصف الجميع فترة رئاسته بأنها الأسوأ في تاريخ فرنسا، وبعد أن وصلت شعبيته ليس إلى الحضيض وإنما إلى أدنى مستوى يصل إليه رئيس فرنسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وإذا عدنا إلى أحدث استطلاعات الرأي التي جرت مؤخراً لحساب صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية وقناة «ال سي إي» الإخبارية إذ وصلت شعبية هولاند إلى أدنى مستوى لها في تاريخ الرؤساء الذين حكموا فرنسا حيث وصلت إلى 11 % ويمكن أن تنحدر إلى 5% مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية مطلع العام المقبل وهي نتيجة سيئة إذا ما قورنت بالرؤساء السابقين كلهم، وبعضهم يعزو السبب لإخفاقاته في تحقيق نتائج ملموسة في الاقتصاد وخفض البطالة إضافة إلى الأحداث التي شهدتها فرنسا من إرهاب كان سببها ليس فقط غياب التنسيق الأمني بين الأجهزة المختلفة داخلياً وإنما السياسة المنافقة التي اتبعها تجاه مكافحة الإرهاب خارجياً، كما أن الوعود التي قطعها على نفسه خلال حملته الانتخابية لم يحقق منها شيئاً يذكر ولاحقته الفضائح منذ الأيام الأولى لرئاسته على صعيد الفساد المالي أو الفساد الأخلاقي المكشوف. وفي كل الأحوال، لم تصل شعبية ساكن قصر «الإليزيه» هولاند إلى الحضيض لسبب واحد فقط هو الكتاب الفضائحي الذي صدر في باريس لتريافيلير تحت عنوان «ميرسي بور سو مومان» أي «شكراً لهذه اللحظة» إذ تروي الصحفية الفرنسية كيف أنها اطلعت بداية عام 2014 على خيانة من هولاند شريك حياتها حينها وذلك بعلاقته مع الممثلة جولي غاييه، بل هناك أسباب أخرى كثيرة أدت إلى تدني شعبيته باستمرار وهي بشكل أساس تهافته على المال السعودي والخليجي وانخراطه في تبني التنظيمات الإرهابية وتشكيل مظلة سياسية لها وتحويل العاصمة الفرنسية وأكثر من أي عاصمة أوروبية أخرى إلى مقر لاجتماعات الدول التي تدعمها إلى حد قول بعضهم بحسرة شديدة إن باريس عاصمة النور والثقافة أضحت محركاً لقطعان الإرهابيين المتوحشين. وبالفعل، غدت حكومة هولاند طوال السنوات الماضية رأس الحربة في الحرب الإرهابية على سورية دولة التنوع والحضارة في الشرق، وأضحت تتنافس مع حكومة أردوغان في دعم النشاط الإرهابي في المنطقة وفي سورية والعراق على وجه الخصوص ودفعت أجهزتها الأمنية بآلاف الإرهابيين من السجناء والمجرمين لتدمير بنى الدولة السورية ولم يردعها انتقال الإرهاب إلى عقر دارها وقيامه بعمليات دموية ذهب ضحيتها مئات المواطنين الفرنسيين واستمرت في التنسيق بشكل كامل مع السعودية وقطر في هذا المجال، ناهيك بتحولها إلى أداة رخيصة في يد واشنطن تحركها في مجلس الأمن والمنظمات الدولية للتغطية على جرائم الإرهابيين وتوفير مظلة سياسية دولية لهم. من منا لا يتذكر السيئ الصيت لوران فابيوس وزير خارجية هولاند السابق وكيف جعل من السياسة الفرنسية ذيلاً للسياسة الأمريكية وجعل من نفسه تابعاً وضيعاً لها كما أنه حول «الكي دوسيه» إلى دائرة من دوائر الخارجية الأمريكية تأتمر بأمرها، وتنصاع فوق هذا لما يأتيها من الخارجية «الإسرائيلية» وبذلك تقزمت فرنسا وغدت لعبة في يد الدوائر الصهيو- أمريكية، وأداة تخدم مشاريعها ولا تخدم المصالح الوطنية الحقيقية للفرنسيين الذين باتوا يشعرون بتراجع الدور العالمي لفرنسا وهبوطهم بها من مراتب الدول العظمى، إلى مرتبة دولة لا وزن لها ولا تأثير في المشهد الدولي الراهن، بل ووصموها بعار الوقوف إلى جانب الإرهاب والإرهابيين. لقد حاول هولاند أن يصدر أزماته الداخلية السياسية والشخصية الأخلاقية وفشله الاقتصادي إلى الخارج من خلال نهج مراوغ ومواقف مزدوجة مظهراً أنه «يحارب الإرهاب» في الوقت الذي يسخّر حكومته لدعم التنظيمات الإرهابية تحت مسميات ومزاعم كاذبة بأنه «يدعم الثورة والثوار والمعارضة المعتدلة»، وتبين أنه في مقدمة من يغذّي الحروب الإرهابية على حساب سمعة فرنسا واقتصادها الذي ازداد تراجعاً بسبب هذه السياسات المتهورة، إذ تشير الدراسات إلى أن التدهور الاقتصادي وصل في عهد هولاند إلى مستويات غير مسبوقة، فنسبة البطالة تجاوزت 10 في المئة فضلاً عن تضاؤل دورها في منطقة اليورو والاقتصاد العالمي ويأتي هذا نتيجة التبعية المطلقة للولايات المتحدة وفقدان القرار المستقل الذي كان يميز السياسة الفرنسية منذ عهد الزعيم الفرنسي الكبير شارل ديغول. وفي سياق التبعية شبه المطلقة للسياسة الأمريكية زجّت واشنطن بفرنسا في حروب الفوضى المدمرة التي أشعلتها في دول ما يسمى «الربيع العربي» وظهر هذا الدور أكثر ما ظهر في ليبيا وعدوان «ناتو» عليها الذي كانت حكومة هولا ند المجرم الأول في تدمير وتمزيق الدولة الليبية وتسليمها للعصابات الإرهابية من كل حدب وصوب كما ظهر دورها المعادي والحاقد على سورية وتبنيها «المعارضة» العميلة وتسليحها عدداً من التنظيمات الإرهابية بتمويل سعودي وقطري للاستمرار في سفك دماء السوريين وتدمير بنى الدولة السورية، وبقيت حتى الآن ترعى فرنسا بنفسها وبالنيابة عن الولايات المتحدة الأمريكية ما يسمى «مجموعة أصدقاء سورية» التي توالي عقد اجتماعاتها الخائبة والبائسة في باريس، وفي هذا الشهر بالذات وتسمسر لقاء هذه «الرعاية» للحصول على الأموال الطائلة من السعودية ودول الخليج. ومن المؤكد أن التاريخ الفرنسي لن يسجل أي وقائع مشرفة لهولاند، ولاسيما فيما يتعلق بمكافحة آفة الإرهاب وهي أخطر آفة تتعرض لها البشرية فقد عملت حكومته على ركوب موجة محاربة الإرهاب ليس من أجل «القضاء عليه» وإنما من أجل استغلاله واستخدامه بصورة انتقائية ومسيسة بحسب الأوامر الأمريكية وتوجهاتها في تحويل التنظيمات الإرهابية إلى جيوش.. لـ «البنتاغون» بديلة تحارب بالوكالة عن الإدارة الأمريكية أينما تشاء هذه الإدارة. لقد بقيت حكومة الإليزيه في عهد هولاند تدعم الإرهابيين في سورية بكل أنواع الدعم، بينما دفعت بقواتها إلى مالي في أعماق إفريقيا لمحاربة مجموعات مسلحة هناك لقاء وضع يدها على مكامن الثروة من اليورانيوم والمعادن الثمينة وفتح باب الحروب الداخلية التي تستجر بيع الأسلحة الفرنسية لكل الأطراف المتصارعة وسمحت لها واشنطن نتيجة خدماتها للسياسة الأمريكية بأن تعقد صفقات التسلح الكبرى مع دول الخليج وبخاصة السعودية بالمليارات وجرى الاتفاق مع الرياض في زيارة هولاند الأخيرة للسعودية بعقد صفقة بـ25 مليار يورو لتسليح الجيش السعودي. وغيرها من الأموال التي تلقاها هولاند لقاء انصياعه لأهواء النظام السعودي في دعم الإرهاب. لا يمكن تفسير إعلان هولاند بالإحجام عن الترشح لولاية رئاسية ثانية إلا بالفشل السياسي والاقتصادي الذريع لحكومته ووصول رصيده الشعبي إلى الحضيض وبروز تيارات قوية في المجتمع الفرنسي تعتزم فرض ملامح واضحة للتغيير وانتهاج سياسات جديدة تتجاوز الأخطاء القاتلة التي ارتكبها هولاند وحكومته ولاسيما على الصعيد الخارجي وهذه الحالة ليست محصورة بفرنسا فحسب، وإنما يبدو أنها تتعداها إلى مجتمعات غربية أخرى أيضا بدأت قواها الشعبوية تستشعر الخطر على مستقبلها من جراء الممارسات الاحتيالية للنخب التقليدية الحاكمة على الصعيد الداخلي والخارجي وهذه القوى تتأهب لإحداث تغييرات جذرية في رأس هرم السلطة على غرار فوز دونالد ترامب المفاجئ في الولايات المتحدة الأمريكية في الانتخابات الرئاسية ومؤشرات صعود فرانسوا فيون في فرنسا مؤخراً وكلها تضاف إلى رصيد موسكو في قيام تحالف دولي حقيقي للقضاء على الإرهاب وولادة عالم متعدد الأقطاب لا أحادية فيه للقرارات الدولية كما قال الرئيس فلاديمير بوتين في رؤيته الاستراتيجية للسياسة الخارجية الروسية للسنوات المقبلة.

تركي صقر