ثقافة وفن

أهل الشمس

 

قطفت الياسمين بيديها الحبيبة، قالت لي احملني بابا، حملتها وبدأت عيناها تنتقي الورود البيضاء بعناية بالغة، جمعت غلالها في جيب مريولها.

: لمن هذا الياسمين يا ابنتي ؟ أعطتني واحدة كي لا أزعل :”بابيتو هدول لعمو” قالت وعيونها تضحك، اعتقدتُ أنه البقال الذي يعطيها قطعة حلوى كلما رآها، لكننا عبرنا البقالية ولم تكترث كعادتها بشراء شيء، الياسمين غاف في جيب مريولها، إلى أن وصلنا إلى أحد الحواجز العسكرية التي وضُعت قبالة مدرستها بعد أن سقطت في المنطقة عدة قذائف هاون، همست لي ” بابيتو معليش أعطي الوردات لعمو ” أجتبها أي واحد منهم -كانوا ثلاثة-، ارتبكت من كونهم ثلاثة أشخاص، ثم قالت ابنة الستة أعوام ” هدا بابا اللي بيشبه جدو “.

أخرجت وردتين أعطتهما للشابين، وركضت باتجاه الرجل الذي غزا الشيب رأسه، أخرجت ورداتها ببطء شديد ” مشان ما يدبلوا ” أعطته ياسميناتها وقبلت يديه، رفعها بذراعيه وقّبل يديها ورأسها، سألني بصوت قادم من ينابيع وبيادر: ابنتك؟ نعم يا سيدي الكريم ابنتي. قبلها مرة أخرى وهي مطمئنة بين ذراعيه على غير عادتها، إذ نادراً ما كانت ترضى أن يحملها أي شخص سواي.

قال لي: هؤلاء من يكسرون الظهر، هؤلاء من يموت الجندي منا كرمى لابتسامتهم النقية وهو مطمئن إلى موته لتورق أعمارهم، حمى الله كل أطفال سورية.

غادرت الصغيرة حضنه الأبوي وذهبنا إلى وجهتنا، وهي تلتفت وتلوح له بيدها.

بعد أيام وقع تفجير إرهابي قرب الحاجز ذاته، وكان أن أسلم ذلك الرجل النبيل الذي لم أعرف اسمه، ابتسامته الطيبة وقلبه المقطوف صباحا من دالية عنب بسنيه الخمسين وذكرياته عن عمر قضاه في بلد أحب كل شبر من ترابه وصادق فوق أراضيه الكثير من السوريين المحبين، أسلمها إلى الموت الذي تولد من رحمه الحياة.

رأيتهم يحملون جثمانه، كانت ذقنه قد نبتت قليلاً مغافلة موته، وملامح وجهه المطمئنة غافية تحت خيط من الدم الحار الهاطل من جبينه، الغروب الذي كلأ خطاه ترك طيفه يكدح في خاطري، تذكرت اطمئنان ابنتي بين ساعديه وكأنهما ذراعاي أنا، تذكرت كيف قبلت يده وكيف ترك فوق جبينها شفقاً لا يريم .

مرات عدة ونحن نشاهد التلفاز تُبَث مقاطع لرجال الجيش العربي السوري، وهم يتركون خلف ظهورهم أعمارهم وأبناءهم ليطئوا الموت بالموت وأيديهم المباركة تشق الهواء الخالد أثلما وتترك في عبورها ضراوة الأصيل بعد أن صار فخاً يتصيد طيبتهم التي نعرفها منذ زمن طويل، بذور الحياة القادمة.

صاحت “مريم” ” بابا هدا عمو ” وهي تشير بيدها إلى التلفاز. لوهلة صدّقت؛ لأنني أردت أن أكذّب أن الموت يستطيع أن ينال من تلك القلوب النقية، تمنيت أن يكون قد نجا من صلّ ذلك الأفعوان المفخخ.

دققت جيداً في الصور التي تمر أمامي، ترافقها أغنية لطالما أحببتها منذ طفولتي ” صف العسكر رايح يسهر مع العسكر فوق جبال بإيدوا عمَّر راح وبكر زرع البيدر كلو رجال “. ليس هو. لم أقل لها ذلك، إلا أن الغريب في الأمر، أن الشيء الذي أدركه الأطفال ولم ننتبه إليه، هو كم يشبه أولئك الرجال بعضهم بعضاً، كم تتقاطع قسمات وجوههم و رائحة أصواتهم في ما بينها، رجال من مختلف الأعمار ومن مختلف محافظات سورية، أياديهم ثابتة على الزناد و ابتسامتهم واحدة، وهم يتكلمون عن وحدة سورية ووحدة شعبها وأراضيها، وكيف أنها أمانة مصانة في أعناقهم أو يموتوا دونها، الحرب صهرت قلوبهم وصقلت ملامحهم السورية المقدودة من سنديان الجبال و شتلات التبغ، من أمواج البحر وضفاف بردى، من أغصان الزيتون والغار، حتى صاروا ملايين الرجال بقلب واحد وروح خالدة .

نراهم ونلوّح لهم، وهم ماضون ليملئوا كأسنا بالحياة وخيالاتنا بالصباح السوري النظيف القادم من أفواه بنادقهم ومن تلويحة أياديهم المشتعلة بالحياة، يغادرهم رفيق دوّن الندى على جبينه ” ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ” يودعونه وهم يرددون أغنية “لا غالب اليوم إلا الذي بكل جوارحه ينام، نم يا صديقنا عليك تراب سورية.. عليك السلام “.

يعودون في الكرى المأهول بالأطياف إلى ميادين الرجولة، يردون المكتوب إلى حبره ويرجعون بالنبأ العظيم.

 

تمّام علي بركات