مساحة حرة

“أستانة”: هل بدأ الحل؟

كان هناك من يظن في السنوات السابقة أن القيادة السورية تخشى الدخول في المسار السياسي لحل الأزمة، وذهب كثيرون إلى أننا نقلق ونتردد أمام طرح الحل السياسي على الرغم من مبادرة سيادة الرئيس في كلمته المتميّزة في 6/1/2013 الواضحة جداً في تأكيد مطلب الحل السياسي السوري – السوري وتوطيد أسسه ومعالمه وخطواته كمشروع متكامل الأبعاد قابل للتنفيذ.

ومع توالي اللقاءات في جنيف وفيينا وأستانة اتضح بجلاء أننا نفضّل هذا الحل على الحل العسكري انطلاقاً من أننا أبناء الأرض والوطن والشعب والماضي والحاضر والمستقبل، نتمسّك بهذا جميعه ونخشى عليه ونبذل في سبيله التضحيات الجسام، لأننا كنا ولانزال على ثقة بأنفسنا وبشعبنا وبقوة جيشنا ومشروعنا الوطني التقدّمي، فلم نقف منذ بداية الأزمة يوماً في وجه الإصلاح والحوار والاستحقاقات الديمقراطية الشعبية، وكنّا ولانزال آذاناً صاغية، وعقولاً منفتحة على إعادة النظر في الدستور والحكومة، والاستعداد لأي معطى تفرزه الانتخابات الوطنية الديمقراطية، كما كنّا ولانزال ننأى عن الحل العسكري الذي فُرض علينا واضطررنا للتعامل معه كواجب وطني وإنساني وأخلاقي في مواجهة التطرّف والتكفير والإرهاب، ونجحنا في هذا التعامل بصمود سيسجل التاريخ عظمته.

فقد شكّل الانتصار الميداني في حلب، وفي سواها، هزيمة بل فضيحة للعصابات المسلّحة بكافة أطيافها المتعددة، ما أدّى بالنتيجة إلى ضعف موقفها في المسار السياسي الراهن والقادم أيضاً، إذ أجمع العالم أن ما بعد حلب غير ما قبله، ولذلك سيكون لقاء أستانة وما بعده غير لقاءات جنيف وفيينا وإن كان البيان الختامي لأستانة يذكر القرار 2254 أكثر من مرة.

وعلى هذا الأساس فمن الطبيعي أن يشكّل لقاء أستانة بالأمس خطوة إلى الأمام في مسار الحل، وقد كان اللقاء بحجم الصمود، لا بحجم العمالة، على الرغم من أن البيان الختامي للقاء لا يقدم معطيات كبيرة إضافية على الاتفاق المعلن والموقّع عليه في 29/12/2016 والمدعّم بقرار مجلس الأمن 2336. إلا أن ما يستحق الاهتمام والتقدير هو «إصرار الوفود المشاركة على القتال مجتمعة ضد تنظيمي داعش والنصرة الإرهابيين، وعلى فصلهما عن التنظيمات المسلّحة المعارضة» إضافة إلى إعراب هذه الوفود عن قناعتها بأن «الحل الوحيد سيكون من خلال عملية سياسية تقوم على تثبيت وتقوية نظام وقف إطلاق النار»، وهذا ما حشر العصابات المسلحة ومشغليها في الزاوية، فبدأت في التردد والمراوغة… ويبدو أن الأوان قد فات.

فات الأوان، فلقاء أستانة يبدو أنه مؤهّل للنجاح لأسباب منها غياب أوروبا والرجعية العربية، فانحسر الضامن بثلاثة، وهذا أفضل لأنه “كلّما كثُرَ الطباخون احترقت الطبخة”، ومن طرف آخر فإن رهان العصابات المسلحة ومشغليها على الولايات المتحدة قد سقط، فأمريكا يبدو أنها اليوم لا تستطيع أو لا ترغب في الانهماك بدور في مثل هذه المسألة فكانت كلمة الرئيس ترامب في حفل تنصيبه مخيبة لهؤلاء حيث أكد باختصار «سنوحّد العالم المتحضّر ضد الإرهاب الإسلامي المتطرّف الذي سنزيله بشكل كامل من وجه الأرض»، وباستفاضة من طرف آخر بأن إدارته ستنشغل بـ “معاناة الأمريكيين من ازدهار السياسيين مقابل إغلاق المصانع، فحَمَت الإدارة نفسها ولم تحمِ المواطنين، فالذي يهمّ الأمريكيين ليس تحكّم الحزب بالحكومة، بل تحكّم الشعب بالحكومة، فلن يبقى هناك نساء ولا رجال ولا أطفال منسيّون، ولا شباب منهمكون بالجريمة والمخدرات ولا طلاب محرومون من المعرفة، ولا مصانع ضربها الصدأ منتشرة مثل شواهد القبور”. لذلك فالغائبون من أوروبا والخليج لم يعد يهمّهم الغياب والحضور بقدر ما يقلقهم مثل هذا الكلام لترامب.

إضافة إلى هذا فمتابعة المسار السياسي لحل الأزمة ستثبت من جهة أن العصابات المسلحة قد تآكل رصيدها في سيرورتها الطويلة في العمالة والارتزاق والتشتت والتشظي، فتاهت بين المطارات والفنادق والسياسة والميدان، لذلك سيكون الحل السياسي معركة أيضاً لا تستطيع لها صبراً، وهي بحجم الصمود الوطني لا بحجم العمالة لإملاءات الخارج، لهذا كانت مواقفها في أستانة وقبلها تدل على جهل سياسي وتخلّف دبلوماسي ومرتبطة بطروحات غير قابلة للتنفيذ واقعياً. وعليها وعلى من استأجرها أن يؤهّلها ويعترف معها أن الحل السياسي القابل للتنفيذ هو المرتبط بالمشروع الوطني التقدمي، لا بالمشروع الإرهابي الرجعي المتخلّف.

والمشروع الوطني في دولة مثل سورية والذي على أساسه يبدأ الحل لا يمكن أن يكون إلّا تقدمياً مستنداً على العلمانية، وفي هكذا مشروع لا يمكن أن تكون تركيا أردوغان، ضامناً له، لأن أردوغان كما أكد الرئيس الأسد في مقابلة مع قناة T.B.S اليابانية « إخونجي متعاطف داخلياً وغريزياً مع داعش والنصرة… وما يقلقنا هو كيف سنتمكن من إعادة بناء عقول الناس الذين وقعوا تحت سيطرة هؤلاء أو إعادة تأهيلهم وهذا شاغلنا الأكبر بعد الأزمة».

فعلى الأطراف الأخرى أن تتأكّد من أن الانتماء الوطني والأخلاقي يعتبر تحويل الإرهابي إلى سياسي مخالفاً للطبيعة حين يرنو إلى الرجعيتين العربية والعثمانية، فخارج هذا الانتماء يستعصي الحل.

د. عبد اللطيف عمران