ثقافة وفن

حكايات سوريّة.. سيدة من جبال عالية كالغيم

تبقى الكثير من الحكايات العظيمة التي حدثت في الزمان، لا تجد من يريها ويحكي بعض من تفاصيلها الأعجازية، إلا ان الزمن نفسه الذي يهمل الكثير من الحكايا والقصائد وعظيم الأفكار بقصد ودونه أحيانا، هو نفسه من يعود ليحكي ربما بدافع الصدفة، حكايات نبيلة، عظيمة، تشق الوجدان وتبقى راسخة في القلوب أبدا.
حكايات كثيرة حكاها السوريون في صراعهم الملحمي يوميا مع وحش الموت والخوف منها حكاية هذه السيدة،
وقفت أمام عدسات الكاميرات، وهي تتلمس يقين بقاءها وأولادها على قيد الحياة، من عيون الناس المتحلقين حولها ، بعد اربعة أيام قضتها بين الأحراج الكثيفة، المكتظة بالضباع وحيوانات أبناء آوى,هربا من الذبح الحلال الذي شاهدته بأم وجعها ورعبها ،يّعلق رقاب الأطفال المقطوعة فوق حبال الغسيل ,وينشر أطرافهم المبتورة من سنيهم اليانعة ،على قارعة الطرقات وجنبات الأرصفة .
هاهي تشم رائحة الحياة التي كادت تغيب عنها وعن أطفالها من روائحهم الأليفة، تحكي بصوت متهدج ووجه منطفئ تفاصيل تلك الحكاية التي لا تحدث إلا في الأفلام ” التي نصفها بكونها تبالغ جدا في تقديم الحكاية ”
حكاية الموت الذي وطأته بالموت والحياة التي قبضت على خيوطها الواهية بأظافر الأم عندما تهم نية سيئة ليد غدر تريد أن تسرق اولادها منها , حكاية هروبها بأولادها من القتل المذهبي الذي تمارسه عصابات ” آل سعود الوهابية , وعلمانية المخابرات الأمريكية والإسرائيلية على الأراضي السورية منذ اكثر من ثلاثة اعوام”.
عندما نظرت تلك السيدة إلى الحرية والديمقراطية المحفورة بشائر حقدها على حد السيف و نصال الغدر, ادركت أن ما تراه هو الشر بعينه منتحلا شكل اناس لا يقيمون لشرعة الإنسانية أي اعتبار و لا ينظرون إلى الحياة التي لا تتماشى خطواتها مع أفكارهم الظلامية، إلا بمنظار الهباء والإقصاء النهائي الدموي لصاحبها عن قيدها.
تركت بيتها وعلى اطراف اثوابها وبين يديها وفي غريزتها الأمومية ، تعلق أطفالها بأنفاسهم المتقطعة , تروم الجبال الموحشة , مختبئة بين الشعاب والكهوف ,تطعم اطفالها من حشائش الأرض ,وتتسلل خفية في الليل إلى الكروم القريبة منها ’ لتقطف ما تبقى من ثمار الصيف ناضجة في اغصانها و جافة مرمية تحت جذوع أشجارها و تلقمها لفلذات كبدها ، وعندما يشتد بهم العطش تهيم على وجهها لتتبع أثر جدول ماء صغير , قبل أن تتقطع بها السبل وتضطر مرغمة لأن تسقيهم من مياه الصرف الصحي.
اتخيلها وهي تنتظر العتمة بفارغ الصبر لتتدثر مع اطفالها بسترته السوداء الحالكة خوفا من الضوء الفاضح , وبعد أن يهبط ليل العالم كله وعتمته القاسية عليها ، تحضنهم وتلفهم بأحضانها بعد أن تستقر بهم بقلب مجاري المياه كي لا تقترب منهم الوحوش البرية ، وعيونها تشم بالعتمة الضارية أي صوت بشري صار يعني لها الموت الأكيد ,بعد ان نشر حفدة الأباليس ،الرعب في تلك التلال الآمنة , رعب لا ينتهي بمجرد الموت او الهرب منه, لأنه يبقى بتفاصيله البشعة و الكابوسية عالقا في الأذهان وشاخصا في الأحداق التي لم ترى هذا القبح و الإجرام من قبل.
أسمع عيونها تجيبني و أنا اسألها من خلف الشاشة التي شاهدتها محتوية جسدها الضئيل بخجل من الدونية التي وصلت أليها الإنسانية : هل كنت خائفة ؟ تجيبني نظراتها : ما من وقت للخوف, الخوف شعور طبيعي لدى الإنسان , لكن ما كنت أواجهه ليس مخيفا ولا تستطيع أن تصفه بأي صفة معروفة , ما كنت أشعر به هو الألم ، ألمي من استئناسي بالوحوش الضارية التي تجوب تلك المناطق ،وهلعي وخوفي من خطوة إنسان لطالما لم أراه إلا أخا وأبن عم ، من أي قرية ومن أي مدينة سورية كان .
ولكني أرى على ثوبك المطرز بالرعب بقع طين جاف ، هل وقعت ؟ تجيبني كما أجابت أم سعد “غسان كنفاني”: الأم السورية الحقيقية لا تقع.
سيدة سورية بسيطة كانت تزرع الخضار أمام بيتها في ريف اللاذقية، جاءها الموت ليخطفها وعائلتها، فما كان منها إلا أن اصطادته وجعلته وليمة لرواة سيحكون كثيرا عن هذا الوجع الذي أحال قلبها التفاح إلى سكين نصلها يقطع الخوف من عروقه!

تمّام علي بركات