مساحة حرة

التهديدات الأمريكية لم ولن تخيفنا

في الوقت الذي اعتاد فيه الشعب السوري وقيادته السياسية على التهديدات الأمريكية منذ نصف قرن مضى، فإن الثقل السياسي لسورية لم ينكفئ لا داخلياً ولا إقليمياً ولا دولياً، فمع استمرار هذه التهديدات بقيت البلاد قلب العروبة النابض وحصناً منيعاً في وجه التطبيع والاستسلام وكافة أشكال الغزو، وقلعة للصمود والمقاومة. واستمرت الحياة العامة فيها وستستمر رغم أنوف الخونة والأعداء والإرهاب.

هذا لا يعني أبداً أننا لا نقيم وزناً لهذه التهديدات، ولا نأخذها بالحسبان، فقد كان منطقنا السياسي ونهجنا بعيداً دائماً عن العنتريّات. ولاسيما أن هذه التهديدات دخلت حيّز التنفيذ والإجرام، ومعها صار من الصعب الرهان دولياً على مصداقيّة ترامب وتوازنه.

لكن ليست هذه هي المرة الأولى التي تنفّذ فيها الولايات المتحدة تهديداتها ضدنا، فقبل خمسة وثلاثين عاماً فعلتها مع الغزو الصهيوني للبنان عام 1982. ولم تتعرض سورية وأغلب الأقطار العربية منذ 1967 حتى اليوم لعدوان من الصهيونية أو الرجعية العربية أو الإرهاب دون أن تكون للولايات المتحدة الأيدي الخفية والظاهرة في الاعتداء على مصالح الشعب وقضايا الوطن والأمة.

ولطالما تماسكت سورية وتلاحمت شعباً وجيشاً وقيادة لإفشال التهديدات والعدوان بحكمة وروية مقابل الغطرسة الصهيو-أمريكية، ونتذكر في هذا السياق قول القائد المؤسس حافظ الأسد أمام هذه الغطرسة والعدوان على لبنان وسورية عام 1982:”الولايات المتحدة دولة عظمى، ولذلك عليها أن تحمل مبادئ لا مدافع”.

لكن يبدو اليوم أن الولايات المتحدة، ولاسيما مع ترامب، لم تعد دولة عظمى. لاشك فيها بقايا من الغطرسة العسكرية والاقتصادية مقترنة بعجز وديون، أما على المستوى السياسي فإن هذه الإدارة تعيد إلى ذاكرتنا مسألة الرجل المريض في مطلع القرن الماضي وعلى عدة مستويات منها الانتكاسات المتلاحقة في أفغانستان والعراق وقريباً في سورية، ومنها أيضاً انتقاد كل إدارة للإدارة التي سبقتها والادعاء بابتداع جديد على مسرح السياسة الدولية، ويزداد هذا الانتقاد مع إدارة ترامب عملاً بـ:”كلما دخلت أمة لعنت أختها”، ومنها أيضاً تناقضات ترامب المتسارعة وانفعالاته غير المنضبطة نفسيّاً وسلوكيّاً حتى قيل إن ابنته وزوجها مستشاره أثّرا في سرعة قراره بقصف “الشعيرات” ومحيطها. وفي السياق نفسه كان نفاق حكومات الغرب وانتقالها المباشر من انتقاده إلى التهليل له.. فهذا من الأدلة على أننا أمام سياسة مرتبكة لن يكون لها ثقل في القانون والمجتمع الدولي إلا من باب التهوّر والتأزيم.

هذا هو الواقع، وليس هذا رأيّاً حزبياً أو إيديولوجيا. فمع قصف الشعيرات وماتبعه من تصريحات الإدارة الأمريكية تأكّد أن هذه الإدارة دخلت نسق الرجل المريض غير القادر على تمييز وتحديد خيارات القوى الحيّة والفاعلة الناهضة في المنطقة والعالم، وذلك لعدة اعتبارات تتجاهل فيها بعضاً من الحقائق التالية:

آ- ترامب يخوض معركة ليست معركته بل معركة الإرهاب الصهيو-رجعي العربي، وهي معركة ليس خصمه الوحيد فيها سورية ولا الرئيس الأسد.

ب- إن أمريكا ترامب على أرض الواقع اليوم ليست بوزن روسيا بوتين، ومراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية في العالم تقرّ ذلك وتعرفه وتوضحه، ولأسباب.

ج- العالم كله اليوم قلق مع ترامب ومنه، وأوّله الشعب الأمريكي، والشعوب الأوروبية..إلخ ولاسيما الرئيس الصيني الذي كان على مأدبته أثناء القرار بالعدوان على حليفيه.

د- محور المقاومة هو القادر على وضع الخطوط الحمراء – بيان الحلفاء – فقد صار من الصعب تجاهل حيوية هذا المحور في المنطقة وحضوره وقدرته على امتلاك عدة خيارات، وحلفاء هذا المحور في العالم ولاسيما في أمريكا الجنوبية، وكوريا الديمقراطية أسطع مثال على امتلاك هذه المحاور أسلحة استراتيجية تفوق المدى الجغرافي لساحة النزاع.

هـ – إنه لمن الخطأ تماماً تجاهل أن القوى الحيّة في المنطقة والعالم، صارت ترى أنه من الأفضل الانتقال بالصدام من حافة الهاوية، إلى الهاوية نفسها مباشرة بعد سنوات ستٍّ من الخراب وانتشار الإرهاب في العالم انتشاراً تدعم فيه – مثلاً – الإدارة الأمريكية تركيا التي تستوعب 300 ألف من الأيغور الصينيين والشيشان الروس وقد منحت لأكثر من 100 ألف منهم جوازات سفر، ويقاتل منهم اليوم في سورية الآلاف وهم جاهزون للعودة إلى الصين وروسيا حين تقتضي حاجة الولايات المتحدة.

و- هناك قناعة واسعة في المجتمع الدولي وعند شعوب العالم باستحالة عودة سيناريو كيماوي العراق وتطبيقه في سورية، بسبب وجود قوى فاعلة تقف بالمرصاد لهذا التزييف، وهي قادرة بالفعل ومصممة على الرد والردع بأشكال عديدة. إضافة إلى أن الوضع الإقليمي والدولي يختلف تماماً عن تلك الأيام.

إن التلاعب البهلواني بين الكيماوي والإرهاب، وخيار الشعب في نظامه السياسي وقيادته، صار سياسة مقترنة بالفضائحية وبالعجز، فمع كل تصريح متهافت لهذه السياسة نتسامى شعباً وجيشاً وقائداً، ويتسامى معنا أمل جماهير شعبنا وأمتنا وأحرار العالم باتساع مساحة سيطرة الجيش العربي السوري ومؤسسات الدولة الوطنية خلف قيادة الرئيس بشار الأسد أمل الشعوب في دحر الإرهاب والتطرف والتكفير أدواتٍ، وعملاء، ومشغّلين.

د. عبد اللطيف عمران