ثقافة وفن

ندى السحر

كما حبة حصرم صغيرة لفحتها الشمس فأحالتها عنباً يانعاً.. وكما غمامة من أقاصي السماء فاجأتها حزمة من برق فاندلع رذاذها مطراً سخياً.. ومثل وردة أغلقت الظلمة جفونها طوال ليل من برودة وسكون ثم خلخلت ضياءات النهار وريقاتها بالانتعاش.. كانت تخال أن ما سيأتي من أيام سيزيد الرماد رماداً.. وأن ألوان الحياة قد خبت واصفر بنفسجها وكلح ازرقاقها البهي، وغدت أقواس القزح فيها ذكريات من ماض ونسيان.. لمحات تمر في الخيال كبروقات تلمع لحظة ثم تدلهم.. ما كانت تظن أن يداً ثرية بالنور واليخضور ستمسح عنها رمادها وتزيل غبار القلب وبرودته.. ما كانت تظن يوماً أن أمانيها بصاعقة من الورد ستحل بها.. فيسكنها عبيرها الأخاذ وتهيم بها ألوانها الدافئة..

كل ما حصل في ذلك المساء كان يساوي لحظة واحدة من زمننا الأرضي، لكنه دهر من زمن السموات.. لم تدر كيف اتسعت تلك اللمسة لكل ما أحسّت.. كانت حركة عادية وفي حدود هي أقل من مصافحة.. كيف اتسعت لما أكثر من عناق.. وكيف نشرت في مسامها صواعقها، كيف احتدم الكلام في حلقها فتلعثمت.. كانت مجرد لمسة دفعت بريح شفيف إلى ليالكها البرية وغمستها في رطوبة غمامة.. أيقظت فيها حساً كانت تظن أنه مضى.. أيقظته كما غدير ماء يندلع في غير ما ربيع.. كما التراب يفاجئه المطر الأول للخريف يحيله إلى كرات دافئة من غضار.. فلا هو استحال طيناً ولا بقي ذرات جافة متناثرة من غبار.. هو بين حالتين.. بين صيف ورغبة في الهطول.. بين بوح راعش واستكانة.. ينوء بالكلام همساً وبالإعلان عن حروفه الملونة.. فلا يأتي البوح ملوناً ولا هو صمت.. فاجأته لغة من لهب تتراقص حروفها في كل الاتجاهات.. كما خطوه المتقافز بين المد والإدغام.. ليس ينتظر.. وينتظر كثيراً.. قد يكون متلعثماً هذا النطق بالحالة.. لم يجد وقتها لغة توائمه.. بدا كعصفور أطبقت عليه سحابة.. كطفل داهمه النوم لكنه يحاول الفرار من فراشه الوثير..

كيف تم كل ذلك.. كيف استقت سريعاً هذه النبتة بنسغ الحب.. كيف تبرعمت في المساء تحت ضوء ينسحب في المغيب.. كل شيء يسير سريعاً كانهيار سد.. كل ما حولها بدا لها غير مهيأ لدرء عاصفة مرتقبة.. تساءلت.. هل كانت الدنيا وقتها تدور باعتياد؟ والوقت هو نفسه الوقت؟ ألم تلحظ الشمس شيئاً.. ألم ينمو الصفصاف هكذا على حين غفلة من النهر.. تساءلت.. لكن بدا لها أن… … …؟؟؟

حاولت الإفلات من إحساسها والهروب من حالة داهمتها فجأة وبصوت هامس قالت: قد أقسو قليلاً أو كثيراً عليه.. بل عليّ أنا أكثر.. قد أقسر روحي على أن تهدأ.. وأخطو خطوة إلى الوراء حتى لو كان في الوراء.. هاوية.. لكن صوتاً آخر كان يرتل رجاءه للأقدار أن لا تجر قدمها إلى الوراء.. وكان أن استسلمت للحلم –القدر- وها هي الآن حبة عنب تعطي دناً من خمر عتيق.. وقطرة من مطر سخي تلألىء الدنيا وتضيء السماء.. ووردة تتفتح في ندى السحر النوراني.

البعث – ميديا || صحيفة البعث- سلوى عبّاس