مساحة حرة

كل الأيام ..أيامكم ولكم

الأيام كلها لهم، فما من لحظة نتنفس حياتها، إلا وهم زمنها الذي بهم يمضي، وما من تاريخ مجيد في تاريخنا الحديث، إلا وهم صناع ساعاته ودقائقه، وفي يوم عيدهم يكفي أن احكي عن واحدة من خصال أولئك الكرام ونفوسهم الكريمة، حيث ظهر أحد جنودنا الذين ظهروا في تقرير إخباري حربي ميداني، بثته إحدى القنوات الصينية، من إحدى الجبهات المشتعلة في الوطن، كان يجلس وأمامه عبوة ماء فيها عوض الماء زيت زيتون، كان الزيت الباقي في القنينة البلاستيكية يرقد مرتاحاً رائقاً، فالجندي يقدّر هذه الهدية الثمينة التي وجدها مصادفة في حقيبته، بعد أن عاد من آخر إجازة قضاها بين أسرته وأولاده، وعنها يحكي بفخر: هذا الزيت من صنع زنود والدي وإخوتي.

التقرير كان يتحدّث عن طريقة تعامل الجنود مع حالات الحصار التي قد تُوقف طريق الإمدادات إليهم، وخصوصاً في المواقع الهجومية الأمامية، والكاميرا التي كانت تتنقل برشاقة بين عبوة الزيت ونصف كيس زعتر حلبي يجلس مطمئناً إلى جانبها، تقرّر أنها سترتاح أخيراً عند صوت الجندي العذب، الذي راح يشرح برقّة تجرح قلب الورد، عن طبيعة ما يأكل ورفاقه للمذيع المندهش والمصاب بالذهول ربما من هذا الغذاء الفقير، الذي يتناوله جندي في الصفوف الأمامية للحرب “هذا زيت من أرضي وهذا زعتر من حلب، ضع الزيت فوق الرغيف” قال الجندي وراح يكمل كلامه بينما يداه الطيّبتان تلفّان للمذيع “عروسة” زعتر “متل ما كانت أمي تلفها، رحمها الله” قال الجندي، وعندما سأله مقدّم التقرير عن “الطبخة” التي يتمنى أن يجدها حين عودته إلى بيته؟ قال الرجل القابض على بندقيته كما يقبض الهواء على البحر: “قمحية”، “وات إذ كمحية” سأل المذيع، ففاض الشعر على لسان الجندي الجميل، وهو يشرح عن كونها “قمحاً من سهول حوران، نسلقه على نار الحطب ويوضع معه دجاج، يستمر طهيه على النار حتى يذوب القمح تقريباً”.

اكتفى التقرير بهذا القدر من توضيح الصورة، فما من حاجة لمزيد من الثرثرة الزائدة ليست فقط عن الحاجة، بل عن المنطقي والمعقول، فما يريد التقرير -الذي أعدّه إعلاميون صينيون لا يعرفون حتى لغة الناس الذين يكلمونهم! في حين نحتاج إلى مترجم حين نتابع واحداً من تقاريرنا الحربية العجيبة- أن يقوله قاله، الصورة باحت بما في وجدانها الرقمي وقالت: من ترك بيته وأولاده وأهله وجاء ليكون من فرسان النور، رغم أن معاشه الشهري لا يكفيه ربما ثمن طعام، وطعامه أحياناً يصل وأحياناً لا يصل، وهذا آخر ما يعنيه، هو يعرف أنه منتصر سلفاً على كل شيء، وأنه لن يجوع في حالة حصار أو غيرها، فلكل جندي سوري أم حنون وزوجة رؤوم وأخت عطوف، تدسّ له دون أن يدري في حقيبته التي كانت تحارب في الأمس، عبوة زيت زيتون بلدي، ولجندي آخر كيس زعتر حلبي، ولجندي رفيقهم بضعة أرغفة خبز، ومن أجل هذا الزيت والزعتر والخبز، هؤلاء الرجال يباطحون العالم بيد عارية، وتكفيهم وجبة “قمحية” دافئة وصادقة ليكونوا بخير.

تمّام علي بركات