ثقافة وفن

الغياب الذي يجلس في مقهى!

ما من مقهى أو حانة كنا دخلناها في تسعينات القرن المنصرم، إلا وعلى أحد جدرانها وبطريقة عشوائية، عُلقت صورة إما لشاعر ما مثل أدونيس أو نزار قباني، أو لمغن “ثوري” ما، مثل التائب “مارسيل خليفة”، أو “الشيخ إمام” الذي تحول إلى ما يشبه “التقليعة” حينها، حيث كانت شرائطه يتم تناقلها سرا وكأنها وثائق سرية، مع أن تلك الكاسيتات كانت موجودة في البرامكة على البسطات الخشبية التي اكتظ بها المكان، وهناك من كان يضع صور ل “سبيلكان”-حسناء تركية- وأحيانا كانت بعض الصور أكثر رمزية من فهمنا البسيط لمدلولاتها الفكرية، الموضوع لم يكن مزعجا، أن لا تفهم ما تراه من خطوط مجنونة، فالفن عموما حينها لم يكن للفهم، بل لذاته، الفن لغاية الفن حسب واحدة من النظريان النقدية

اليوم تغير هذا، لم تعد الصور برمزيتها هي من يطالعك في هذا المقهى أو ذاك، الآن حلت شاشات البلازما، وصور الأسلاف، التي تعني بطريقة ما “هذا من فضل ربي”!.

اليوم لم يعد لدينا مقاه وحانات أليفة ولنا فيها ذكريات ومع صورها المعلقة بطرف مسمار، طافت أعيينا في لحظات الانتظار الطويلة جدا مهما كانت عكس ذلك.

اليوم ما من صور فيها روح، لأحدثكِ عنها سعيدا بإصغائكِ الجميل، وبأنكِ تحبين حتى تلك الكذبات البيضاء الصغيرة، التي كنت أمررها في قصة ما أحكيها وهي لم تحدث كما رويتها

مامن صور في المقاهي وما من أحاديث تدور فيها أيضا مع دوران صواني وكؤوس الشاي والقهوة، وما من حبيبة أيضا في المقهى تنتظر حكايتها بهدوء عذب وكأنها من مرمر، مرمر يتكئ بمرفقيه على طاولة ينظر إلى صورة ما ويستذكر حديثا جرى عن هذا الذي كان وكأنه لم يكن.

كم تغيّرت المقاهي، كم صار الأليف منها غريباً، وكأننا لم نعرفه يوماً، كم شحّت حياتها اليومية المكتظة بعد أن صارت شبه فارغة، رغم أن المقاهي هي أكثر برلمان شعبي يزدهر في زمن الحروب، إلا أن هذا لم يحدث لدينا في الحرب، لأسباب ليست جديدة على معظم رواد المقهى، لكن جوهرها تغيّر، فمن اختلف في الرأي مع غيره اليوم صار مختلفاً عنه للدرجة التي ربما لم يعودا يلتقيان في مقهى كما كانا يفعلان ذلك من قبل، وإن التقيا فإنهما يديرا ظهريهما لبعضهما، عدا عن غياب روادها الذين صار كل منهم في “ديرة”، مقاه تغيّرت فتغيّر مزاجها، بعد أن جمعتنا في زمن مضى بأصدقاء تقاسمنا معهم أياماً طيبة، وذكريات سعيدة، هكذا ودون سابق إنذار “صاروا «الآخرون»، وصرنا “الآخرين”!

كم تغيّرت المقاهي، غابت عنها الألفة، وحلت محلها  شاشة بلازما لا تنكفئ عن استفراغ مباريات كرة قدم لا تنتهي، والجمهور الذي كان هو من صنع تلك الألفة بصراخه، وغضبه، وفرحه، وأحزانه، وثرثراته التي لا تنتهي، حل محله جمهور آخر، اليوم جمهور رونالدو وميسي، مكان “محمد عضيمة” فارغ، فالرجل لم يعد يجلس في زاوية مقهى الروضة ينتظر أصدقاءه الذين صار يرثي صداقته بهم على صفحته الزرقاء، كان رثاء حزيناً ومؤلماً يا محمد، وتلك طاولة فرغت من كل روادها دفعة واحدة، وكأنما داهمها إعصار، حتى إن الجرائد لم تزل جالسة على المقاعد، وهنا لمن يدقق جيداً فيما أكتب، فإنه سيرى كوبي شاي مازال البخار الساخن يتصاعد منهما، وثمة مقبرة سجائر لاتزال رائحة نسيس ضحاياها عابقة في المكان.

تغيّرت المقاهي حتى في نصوص الشعراء، كل الشعراء، حتى الفيسبوكيين العتاة، ولم تعد مفردة مقهى ترد في قصائدهم، فهي مفردة كلاسيكية، وهم حداثويون، وهذا لا يصح، لا يجوز لهم أن يكسروا قاعدة بودلير المقدسة بأن اللغة قد اهترأت من كثرة الاستعمال، والكثير من مفرداتها صارت “عاهرة”، في تشبيه رخيص من بودلير  للكلمة التي كانت هي في البدء، “بعاهرة” تعمل في ماخور ليلي من الدرجة العاشرة، كما أن الشعراء والكتّاب والنقاد مشغولون هذه الأيام في النقاش على صفحات الفيس والتويتر بالصد والرد، ولكن مع فارق مهم وجوهري عن حوارهم في المقهى، أن نقاشاتهم ونشر غسيلهم المتبادل يتصاعد في الفيس لدرجة التخوين والتكفير، أما في المقهى فغالباً ما كان أي خلاف مهما تطرّف، يحل بنصية عرق عند “اسكندرون”، مع نصف كيلو من المشاوي، وعشرة صحون مازا، شيء من “قريبو”، كما يقال، لكنه كان قادراً على حل أي اختلاف في الرأي، أين أصبح هذا الآن.

كم تغيّرت المقاهي، وكم بعدت دروبها عن أقدام روادها، حتى إنها لم تعد ملاذاً مشتهى من نوبة مطر دمشقية مفاجئة، ثمة روح تبغ بلدي عريق، خنقها دخان “المعسل”، وبين الطاولات التي تملأ المكان، ارتمت الثرثرات كغانيات ماركيز الحزينات، وقبيل الفجر كانت مقشة الأبد تكنسها وتذروها بعيداً حيث لا هبوب إلا وحزين، ولا غياب إلا وفادح.

تمّام علي بركات