اخترنا لك

 كتاب الدكتورة شعبان “عشرة سنوات مع حافظ الأسد”.. توثيق وتحليل في خفايا “لعبة الأدوار” السياسية

في كتاب ضمن بين جنباته فصولا منسقة بحذق كاتبة وراوية لقصص واقعية ومؤرخة لعصر هام وحاسم من تاريخ دولة عربية هامة لعبت دورا بمصير القضية العربية الأبرز في القرن العشرين .. قضية الصراع العربي الإسرائيلي، والذي كانت فيه سورية الحصن المنيع بوجه العدو..  بهذه الدماثة المحبة قدمت الدكتورة بثينة شعبان هذا الكتاب بأنه هو نتيجة أحلام اليقظة التي ترصد الحقائق وتحللها وكأنها أرادت أن تعبر عن الدراما الداخلية التي عاشتها من خلال مشاعر العرفان بهذا الماضي التليد.. والذي أرادت أن تشارك به كل من يقرأها، كما في قولها من صفحة (30) :”…بعد سنة من وفاته شاهدته في الحلم قال لي: يا بثينة لماذا لم تكتبي حتى الآن عن المرحلة التي عملت فيها معي ..؟! أجبت بقولي: “لأنني لم أعرف من أين أبدأ وما نوع الكتاب الذي يجب أن أكتبه، قال ليس عليك الكتابة في كل تلك الأمور يكفي كتاب من أربعة فصول، وأوضح أن هذه الفصول يجب أن تركز على سورية والغرب وعلاقته بالغرب ودوره في عملية السلام وأخيرا “حافظ الأسد وبيل كلينتن”.، وقد بدى الكتاب قراءة توثقية برؤية شخصية، إنه عرفان بالجميل لماض أين منه نحن اليوم كدولة وشعب، إنه الأساس لمستقبل أشرق بمجهود كل من آمن به وحققه..؟!

من خلال الإنتمائية للذات يتأتى الإبداع، ولكن البنائية الذاتية تتأتى من المحيط الخارجي، على هذا النسق بدى حجم دور السياسي كشخص في قيادة أمة… وهو ما عملت على التعبير عنه من خلال نقل وقائع المباحثات.

الكتاب استطاع أن يرصد للأجيال أحداثا وتفاصيلا لمباحثات السلام السورية الإسرائيلية التي سجلت شموخ العروبة وعصمتها عن التنازلات وذلك لتحقيق الاستقرار بالمنطقة وإعادة التوازن الإستراتيجي لها ولشعوبها.

لقد بدى الكتاب ملحمة إنسانية واقعية جسد أبطالها رؤية شعوبهم وأيدلوجية المرحلة الإنسانية اجتماعيا وثقافيا.

والرئيس الخالد حافظ الأسد قاد مرحلة المباحثات برؤية الرجل الرمز لأمته، وجسد عنفوان هذا الشعب وصموده.. وكانت الجهات المفاوضة ورموزها الهامة على مسرح الحدث … الرئيس الأمريكي “بيل كلينتون”، ووزيرة الخارجية الأمريكية السيدة “مادلين أولبرايت” والسيد “وارن كريستوفر”….

ومما ميز الكتاب الالتزام بدقة التأريخ وتفاصيل الحدث ونقلنا إلى أجواء المباحثات ضمن الأقبية العامة والخاصة .. وقد سمحت لغة الكاتبة الحذقة بنقل “دراما” الأحداث وتسجيل الحوار ودور الأشخاص المتباحثين في كل مرحلة، إذ أن الخاص يتأتى من العام .. كدور القائد السياسي في إعادة بناء الرؤية وتوثيقها على مدرج العمل السياسي، هي جوهر العمل وغايته….

واستطاعت الكاتبة أن تأتي لنا بمباحثات هاتفية هامة كان لها فيها دور المترجمة المباشرة بين الرئيس حافظ الأسد والرئيس بيل كلينتون برز فيها الحوار الدبلوماسي العالي المستوى بين المتحاورين.. وكذلك سجلت لنا تفاصيل الغرف المغلقة التي تبرز الحدث ومدى تجسد المشاعر الخاصة وطريقة تفاعلها مع السياسي.. إذ أن الإنسان هو سيد الحياة وبطلها الأول، وتتجسد أمم في شخص ويذوب شخص في أمة وهذا حال القادة السياسيين وهويتهم الحقة..

الدكتورة شعبان تقدم لوحة كاملة في سطور وفكرة ثقافية من خلال التعريج على استخدام لغة الجسد في التواصل مع محدثيها. وهي تكتب بحذق الأمانة المعرفية والتاريخية.. ومن ذلك ما ورد في الصفحة (241 ) : “…. كنت أقوم بالترجمة وفوجئت بثورة غضب كريستوفر، نظرت إلى الرئيس متسائلة على ما يجب علي فعله أو قوله انحنى نحوي وهمس بصوت منخفض قائلا لي: “ابقي في مكانك سيعودان”، كانت لغته الجسدية هادئة ومنسجمة تماما مع ما يقول، فيداه كانتا مستندتين على الأريكة الكبيرة الشرقية التي كان يجلس عليها وعلى وجهه علائم الهدوء والاسترخاء، وحقا عاد كريستوفر وروس إلى الغرفة خلال دقائق، إلى أن قالت: “..وقد أعلن تفاهم نيسان الرابعة صباحا في يوم 27 نيسان 1996، وقد اشتمل على اقتراحات الرئيس الأسد ولم يغفل منها شيئا..”.

لقد جاء الكتاب هوية لمرحلة كانت الكاتبة شاهد فعال فيها كمترجمة مباشرة بين المتحاورين وموثقة لها، من خلال وظيفتها كمديرة المكتب الإعلامي الرئاسي، وهي تجربة خاصة تذوب في العام من حياة قيادة وشعب، وكان لا بد لها أن تحمل لواء توثيقها في هذا الكتاب كهدية للتاريخ والأجيال وبمصداقية، كما ورد بالمقدمة إذ تقول “أن الزمن يتأتى من  خلال الرؤية وهي تنبعث من خبايا النفس…”

وكذا الجانب الإنساني كان المهم والأبرز والجذاب في الطرح والتصوير كما في قولها “استمتعت بكوني حاملا واعتبرت تلك النعمة من الله بها علينا نحن النساء ميزة خاصة تتمثل برعاية مخلوقات بشرية داخل أجسامنا مدة تسعة أشهر”.. إلى أن تقول: ” قال لي الرئيس لا تأتي غدا إلى العمل وفعلا ولدت بعد 24 ساعة”.

ولدى الانتقال إلى تفاصيل الهواتف نجدها قد وضعتنا في همسات الهواتف التي كانت حينها مفصلية بتاريخ المباحثات لتجعلنا نشارك المتحاورين بأفكارهم ومشاعرهم ونفترض ما يمكن أن يكون تباعنا إنها رحلة ممتعة حقا بين أسلاك الهواتف التي حملت حينها أوزار حياة وكرامة شعب يأبى الظلم والاستسلام ومن هذه المكالمات المدونة بالكتاب نقتطف.. إن مثل هذه المؤلفات التوثيقة تعد رفعا للستار والحجب مابين القيادة والشعب، وهو ما حمل لمعاني الديموقراطية والشفافية التي نادى بها..

اللغة الأدبية تناسقت مع التوثيق بالنسق الصحفي، مما أبدى لها سحر التعبير والإبداع بالتصوير للّوحات المدرجة على مساحة السرد، وهو ما يقتضي فن الإقناع وتسلسل الحدث مع الرؤية المعرفية الخاصة للكاتبة.. في الصفحة (273): “يدهشني السياسيون دائما، إذ لا يقولون ما يريدون على نحو مباشر، ونادرا ما يتوصلون إلى استنتاجات، وهم غالبا ينقلون رسالة غير مباشرة، ويتركونها لمرؤوسيهم، وإما إلى وقت آخر لتنضج..”.

البعث ميديا || مراجعة: رجائي صرصر