ثقافة وفن

دفا “جرايد”..!

إنها الساعة الثالثة صباحا، قال عماد وهو ينظر إلى عقارب ساعة الحائط تتحرك ببطء، كان الزمن أيضا قد بدأ بالتجمد داخل الغرفة.

من المستحيل الآن أن أجد ولو لتر مازوت واحد للتدفئة. ثم فكر بأنه يستطيع أن يطلب إلى جاره أن يعيره لتر مازوت حتى حين عودته من العمل، بعد أن رأى عمود دخان ثخين يخرج من جدار البيت المقابل.

كان الهواء يخرج دافئا من فتحتي انفه ومن فمه، لكنه يصبح وكأنه غيمة ثلج صغيرة تسبح بتثاقل في فضاء الغرفة، تسيل عن أطرافها الدخانية خيوط ماء يتجمد ما أن يلامس هواء الغرفة البارد أنفاسه التي كانت منذ قليل تصلح لتدفئة الكفين.

الكهرباء مقطوعة أيضا منذ ثلاثة أيام، وأنبوبة الغاز كانت قد فرغت ظهرا، عندما أخبرته زوجته بأن عليه أن يستبدلها.

البرد يزداد شدة في الغرفة والأطفال نائمون، كانت أجسادهم متلاصقة ببعضها البعض كما لو أنهم مرميين في العراء.

يا الله سيتجمدون إن بقوا على هذه الحالة.

بدأ بجمع الملابس التي وجدها في البيت وصار يرميها فوق الأجساد الصغيرة المرتعشة. نظر إلى وجه ابنته كانت نائمة ،عيناها مغمضتان على أمل أن تستيقظ صباحا وترى اللعبة التي وعدها بها، عندما نجحت في صفها جاءت في المرتبة الأولى بين رفاقها في الصف تلك الأمنية ربما هي سبب هذا النوم العميق الذي تقبض عليه عيناها في هذا البرد الذي يخترق العظام.

عاد ليفكر بالخيارات التي أمامه لجعل المدفأة تشتعل، هل ينزل إلى الشارع ويفتش عمن يبيعه هذه السلعة النادرة؟طرد هذا الخيار من باله، فما يوجد في جيبه من نقود لا يكفيه ثمن ربطة خبز.

يا الله اعمل كالحمار كل يوم ولا استطيع أن أؤمن الدفء لأطفالي؟.

عاد للتفكير بمحاولته استعارة هذا الذهب المشتعل من عند جاره، لكنه سرعان ما “كش” الفكرة من أمامه.

كرامته لا تسمح له بذلك ببساطة شديدة، فأين هو بعلمه وثقافته ومؤلفاته، من جاره الذي صار ببركة الحرب من أصحاب المدافئ التي لا تنطفئ.

نظر عماد إلى أكوام الجرائد والكتب التي يحتفظ بها منذ أكثر من عشر سنوات، ثم بدأ بحشو فم المدفأة بأوراق الجرائد ليطرد أي احتمال يجعله يفكر بالكتب لتقوم بهذه المهمة.

الكتاب إرث حقيقي. قال عماد.

كانت الجرائد تشتعل بسرعة شديدة، وشيئا فشيئا بدأت المدفأة تشيع شيئا من الدفء.

بدأ يبتسم وهو يقرأ مقالاته التي كان كتبها منذ زمن طويل في بعض تلك الجرائد ،والتي كان قد قرر الاحتفاظ بها لكي يجد أولاده أن أباهم كان موجودا ولم يكن نكرة.

أن يدفئ الأطفال الآن أهم من ذلك الفخر الذي ربما يكون وربما لا، قال عماد وهو يفكر أثناء قراءته لما خط في تلك الصحف اليومية من مقالات، كان أمله كبيرا بأنها ستحدث فرقا في المجتمع، خصوصا وانه كان يتحدث عن في تلك المقالات عن الاضطهاد الطبقي الذي يحياه الفقراء في بلده.

بزغ الفجر وكان الإبريق الذي وضعه على المدفأة ليسّخن المياه، قد بدأ بإصدار أصواته التحذيرية بأن الماء على وشك الغليان، وأكوام الجرائد التي جمعها منذ 15 عاما صارت رمادا يملأ قلب المدفأة شحارا من حروف محروقة، لكنها بقيت “حكي جرائد” والآن وجد لها استعمالا مفيدا.

قال لنفسه بإعجاب وهو يقرأ عنوان آخر مقال كتبه قبل أن يضع الجريدة التي تحويه في النار: أسلوبي تطور بشكل جيد. إنه راض عما صار عليه قلمه.

أما أطفاله فقد استفاقوا على صوت نحيبه المخنوق بدخان الجرائد الذي ملأ عينيه دمعا ودما، كما اخبرهم عندما سألوه: بابا لماذا تبكي دما؟.

تمام علي بركات