ثقافة وفن

الاعتذار.. ثقافة الكِرام

رفضت أمريكا الاعتذار عن القنابل التي قتلت بها مئات آلاف اليابانيين في الحرب العالمية الثانية، كما رفضت بريطانية ومنذ سنوات طوال، الاعتذار من الشعب الفلسطيني، عما فعلته بحقه بعد الوعد الوضيع –وعد بلفور-، حيث مرت منذ مدة  هذه الذكرى المشؤومة، وكان أن احتفلت فيها بريطانيا مع الصهاينة في واحد من القصور الملكية هناك، تم الاحتفال بالوعد الدنيء وكأنه ذكرى مجيدة لا ذكرى كادت أن تبيد شعب بأكمله بكل دم بارد، وفي كل مرة تتم فيها استعادة تلك التواريخ الباطلة بالحزن والألم ذاته الذي وقعت فيه، طالبت تلك الشعوب -التي جرى فيها ما يشبه الإبادة الجماعية على مخالب ذئاب “الكابوي” في بلاد “العم سام” وغيرها من المجرمين العالميين-، باعتذار المجرم على الأقل، لكن حتى الاعتذار عن سفك دماء ملايين الأبرياء، رُفض من قبل الذئب الذي يرتدي ربطة عنق “بريطانيا” كما تم رفضه من سيدها الأمريكي!.

ولكن لماذا تقدّر ثقافة الشعوب “الاعتذار”؟ ما هو هذا الاعتذار الذي يرفض المعتدي والظالم أن يقدموه، لمن عليه وقع شرهم؟.

الاعتذار في جوهره هو اعتراف صريح بارتكاب الذنب، أيا يكن هذا الذنب، والاعتذار كما هو معروف عند العرب “دية الكرام” لكنه لا يعني ذلك بالضرورة عند الدول الاستعمارية، فهي ترى أن ما فعلته إن كان بإبادة مدن بأكملها في اليابان أو فلسطين وفي العراق والأن في المنطقة العربية عموما، هو أسلوبها في الحياة، السطو على مقدرات الشعوب، وسلبها، ومن يحتج على عدوانها، يُباد، وهذا موجود كل يوم في العالم حولنا.

كما أنه أي – الاعتذار-عند الشعوب المحترمة، هو أسلوب حياة ونمط سلوك اجتماعي نبيل يعطي الأمل بتجديد العلاقة بين الأطراف المختلفة، وهو التزام يحثّ على تحسين الأواصر وتطوير الذات، وهو استعداد لتحمّل مسؤولية الأفعال من دون أعذار أو لوم أو تقريعهم، ولا يقوى علي ارتكابه إلا من امتلك الرغبة في تصحيح أخطائه، وتشبع بروح المسامحة والتعاطف مع الآخر.

فهل هذه الثقافة “ثقافة الاعتذار” هل هي حقا موجودة في علاقات الدول بين بعضها البعض؟.

الموضوع وإن يبدو أنه ينحو في اتجاه سياسي لكنه في الحقيقة محض ثقافي، فكما سلف الاعتذار ثقافة، ما يعني أن مفهومه يتغير من قومية على أخرى ومن أمة إلى أخرى ومن دين على أخر، لكن العموم المفهوم لهذا المصطلح يأخذنا إلى فحواه، الاعتذار من أفعال الكرامة في عمق جوهرها، وهذا ملا يفههمه الغرب الهمجي والكابوي العاجز عن التواجد في أي مكان إلا بعد أن يقوم بقتل أهله أو سلبه حتى قراره وحقه في هذا القرار.

جاء مرة رجل إلى قاضي يشكو جاره الذي قتل أخاه، فطلب القاضي الرجل بالمثول أمامه، وعندما حدث ذلك، وقف القاتل بين يدي صاحب القضية، وقال له : إني اعتذر شديد الاعتذار، فاعتبر القاضي أن الاعتذار هو دية الكرام، وهكذا مضى القاتل وشقيق القتيل، راضيان بالحكم، لإن الاعتذار حينها كان في معناه ندم عميق وإحساس هائل بالذنب، لن يكون من السهل التعامل معه بالنسبة لمن اعتذر، هذا كان في حقب مضت، فكم اعتذار يجب أن يقدمه القتلة اليوم للعالم برمته عما فعلوه شياطينهم وتكفيريهم فيه؟ وهل يكفي الاعتذار فعلا عند هؤلاء القوم الذين لا يعرفون من ثقافة الاعتذار إلا لفظها بعيدا عن أي مسئولية يحملونها عقب اعتذارهم عن عميق ذنوبهم.

من الفضائل الجيدة أن الاغتذار لا زال لديه قيمة معنويسة لدينا في البلد، وهو موضع احترام، وهذا يدل على قيمة هذا الشعب الثقافية العالية، وعلى عراقته التي لا تختفي أصالة ماضيها، مهما عصفت الخطوب، واشتدت رياح العتاة من أصحاب الذمم الميتة.

تمّام علي بركات