مساحة حرة

مؤتمرات الفروع السنوية.. العمل الحزبي: قديمه وجديده

قدّم المشهد الحزبي كما عكسته المؤتمرات السنوية الجارية للفروع الحزبية صورة واعدة للعمل الحزبي الذي يراوح اليوم بين الحاجة إلى الأصالة من جهة، وإلى التجديد من جهة ثانية، وقد ظهر ذلك في الطروحات الغنية التي قُدّمت وتوزعت بين مفرزات الاستهداف والنقد، وبين الأمل والطموح. بين الخدمي والسياسي وبين الحقوق والواجبات. وكان المشهد واعداً جداً خاصة في فروع المناطق الساخنة التي أكد فيها رفاقنا أن البعث كان ولايزال حاجةً وضرورة.
عُقدت هذه المؤتمرات في مرحلة ظنَّ فيها كثيرون أن السنوات الطوال للعدوان على سورية أضعفت قدرتها على مواجهة هذا العدوان كمشروع قديم، وليس طارئاً، يستهدف دورها وأصالتها وقدراتها كشعب حي عريق بوعيه وهويته وانتمائه، وكجيش عقائدي باسل، وكقوى وطنية عروبية تقدمية أحزاباً ومنظمات ومؤسسات.
وظنَّ هؤلاء أن الوضع الدولي المعاصر يخدمهم ويدفع الشك عن ظنونهم وأوهامهم التي وظفوا لها طروحات انهيار العقائدية والإيديولوجيا أمام تقدّم البراغماتية والذرائعية بعد دخول العالم عصر ما بعد الحداثة، عصر فيه عولمة الاقتصاد و«الجهاد» ونهاية التاريخ والعالم، عصر المحافظين الجدد الذي يستمر فيه ترسيخ «من ليس معنا فهو ضدنا» والانتقال من سياسة استهداف المحاور «محور الشر» إلى «محور المقاومة»، والاستهداف القطيعي لروسيا وإيران.
في معمعان هذا الواقع، وهذه الظنون والأوهام صارت «المسألة السورية» الأكثر حضوراً في الميديا العالمية، وفي مراكز الأبحاث وصنع القرار، بل في سائر مؤسسات المجتمع الدولي. وهذا أمر حقيقي وواقعي، وله أسباب ودوافع، فعلى صمود سورية وانتصارها ستتغير، بل ستُلغى خرائط كثيرة في السياسة الدولية المعاصرة كما أكد سيادة الرئيس بشار الأسد في زيارته إلى الغوطة الشرقية مؤخراً.
وبانتقال سورية من مرحلة الصمود إلى مرحلة الانتصار بدت القوى المضادة مرتبكة وهي تحاول عبثاً الاستفادة من الرصاصة الأخيرة في جعبتها بعد أن تعرّت وانفضحت وانهزمت، واتضح بجلاء أثر الانتصار في الميدان – أولاً – الذي أنجزه الجيش العربي السوري على الحياة العامة في البلاد سياسياً واجتماعياً، شعبياً ورسمياً، وعلى البعث بالمحصّلة.
حقيقة دخلنا مرحلة الانتصار، وها نحن نمضي فيها خطوة خطوة، ومن ميدان إلى آخر، مرحلة يعود فيها الشعب السوري بقوة إلى اصطفافه الوطني كمجتمع منظّم أصيل ومبدع.
في هذه المرحلة التي تكون فيها، وستكون، كل سنة أفضل من التي سبقتها، يتجلّى الحضور الحزبي بالعمل الفاعل لكوادره ومؤسساته على امتداد ساحات الوطن، وبشكل أكثر قوة واتساعاً وديناميكية وتجدداً بما يتناسب مع تطور القدرة على التعامل مع الواقع والمستجدات. وهو ما أكدته الطروحات والمقترحات والتوصيات والمداخلات والتقارير المقدمة إلى هذه المؤتمرات من أن طاقة البعث ليست قابلة للتجدد والتطور فحسب، بل هي فعلاً متجددة ومتطورة، على الرغم من غير قليل من الطروحات الخدمية النمطية التي أفرزتها ظروف العدوان على مؤسسات الدولة الوطنية وعلى الشعب والحزب.
ومن الطبيعي أن تشهد مسيرة عمل المؤسسات البعثية هذا العام مناخاً أفضل من العام الماضي، بسبب توالي الإنجازات التي يحققها رفاقنا الأبطال في القوات المسلحة، وعلى هذا الأساس فمن المفترض أن يكون طموحنا في العمل الحزبي إلى العام القادم أكبر.
في هذه المؤتمرات ظهر البعث قوة شعبية جماهيرية فاعلة قادرة على تجاوز ومعالجة بعض حالات الخلل والتقصير التي اعترت حياته العامة ولاسيما وحدته التنظيمية والفكرية وحضوره في المجتمع والدولة خاصة في فترة ما قبل الأزمة، فبدا أن الأزمة لم تستطع أن تُضعف البعث ولا البعثيين، بل ها هي تزيدهم حضوراً وفاعلية: كوادر ومؤسسات وأهدافاً.
وبالرغم من أن أدبيات الحزب طالما أكدت نظرياً على مواجهة مفرزات وأهداف التحالف الصهيوأطلسي الرجعي العربي، إلا أن الحزب في هذه الأيام يواجه وحشيّة تلك المفرزات في الميدان بالفعل وبالممارسة وليس بالأدبيات والنظرية فقط، وفي هذه المواجهة الميدانية غير المسبوقة ظهر البعث ركيزة هامة للمجتمع وللدولة الوطنية العروبية، وحافظ البعثيون جيشاً وعمالاً وفلاحين وطلبة ومثقفين.. على توطيد حضورهم في النشاط الميداني والسياسي والفكري في المجتمع وفي مؤسسات الحزب والدولة.
وقد عكس الحضور الكثيف والفاعل لرفاقنا في هذه المؤتمرات تمسّك جماهير شعبنا بالبعث طريقاً إلى العودة القوية والمتسارعة لجموع السوريين إلى حضن الوطن. وقد دلّ هذا الحضور الطوعي قبل التنظيمي، وفي جلسات طويلة تجاوزت في بعض الفروع ما يزيد عن الثماني ساعات كجلسة متصلة، على أن رصيدنا الوطني والعروبي والإنساني لا ينفد، وأن مشروعنا وأهدافنا مرتبطة بتوق جماهير شعبنا وحزبنا إلى مرحلة عائدة قريباً تتجسّد فيها الوطنية الأصيلة والعروبة المتجذّرة بين هذه الجماهير، وتتلاشى فيها البيئة الحاضنة للإرهاب كمشروع خارجي بالدرجة الأولى.
وكان الحضور وقوفاً في فروع المناطق الساخنة مؤشراً ساطعاً على قدرة الحزب لاستعادة دوره الأساسي في بناء المجتمع الوطني العروبي، وعلى أن الحزب بعد هذه السنوات الصعبة، وخلالها، لايزال يملك أوراقاً عديدة، وأنه قادر على الدخول بقوة يعوّل عليها في مرحلة إعمار سورية إعماراً يبدأ أولاً من «البنى الفوقية» المجتمعيّة لمداواة الجراح ورأب الصدوع، ثم إلى «البنى التحتية» الخدمية.
هذا الحضور الكثيف لأعضاء المؤتمر كان يقابله رغبة وتطلّع من جماهير الشعب في تلك المناطق للمشاركة والتفاعل بعد أن أدركت بوضوح حجم المؤامرة، وزيف التضليل والنفاق الذي مارسته العصابات الإرهابية بعلاقتها العضوية ومأجوريتها للمشروع الصهيوني الرجعي العربي والعثماني.
وقد دلّت هذه المؤتمرات على أن الحزب نجح في مراجعة نقدية فاعلة لدوره ولحضوره في المجتمع وفي التنظيم وفي الفكر، بعد أن نجح في استلهام توجيهات الرفيق الأمين القطري للحزب القائد بشار الأسد دليل نضال، وعنواناً للوحدة الوطنية، وضماناً لوحدة الشعب والأرض.. هذا ما يبشّر بالعودة القوية والقريبة لجموع السوريين إلى حضن الوطن، وإلى الأمل المنشود بمؤسسات الحزب والدولة.

د. عبد اللطيف عمران