ثقافة وفن

غربة

سبع من السنين مرت، عايشنا خلالها ما لا يطيقه الألم، وتحملنا مالا يحتمله الصبر، عشنا فيها غربة عن أنفسنا وإنسانيتنا وسلامنا وحضارتنا التي كانت وستبقى تعم العالم، سنوات كانت كفيلة بإعادة نظرتنا إلى الحياة، بل ربما أماتتنا لنحيا من جديد، وليكون سطوعنا على الدنيا أعم وأقوى هذه المرة.

كلٌّ منا واجه هذه الحرب المرّة بكل إمكاناته، وبكل ما يمتلك من قوة..

بعضنا أراد أن يكون الرقم الصعب في هذه المعادلة المستحيلة، واختار أن ينير الدرب ويزرع الأمل ويعمر المجد القادم ولو بذل دمه ثمناً في صفوف الدفاع الأولى عن وطن لا تهدأ الروح إلا بسلامه، ولا تجد السكينة طريقها لقلبه إلا بنصر ساطع يبدد العتمة..

ومنا من بلسم جراحه بيده وتجمل بالأمل، ورغم خسارته لكل شيء قضى عمره في بنائه أعاد الروح الميتة داخله إلى الحياة وأزاح عنه هموم وأحزان الكون بأسره ومضى ليعيد البناء..

والبعض وجد في اللجوء وسيلة، فحزم جسده ومضى دون الانتباه لما تركه خلفه، رحل باحثاً عما يظن أنه يبحث عنه، لكنه غفل أنه يبحث عن نفسه، عن راحة روحه، هذه النفس والروح التي بقيت متجذرة بمنبتها وأبت الرحيل.

كل من رحل عن هذه الأرض أكد أن الغربة نالت منه وجعلته شبه حي، وبلغ الوجع منتهاه فيه، وبات أسير ذكريات هي وحدها بقيت حية داخله تمده بنبض ودفء قلبه الصغير المشتاق، تشعره بوجوده وتحميه من صقيع كاد يجمد حنايا روحه ..

الغربة عن الوطن تعاسة وألم، فكيف إن كانت غربة عن هذه البلاد، يُجمع كل من يزور بلادنا أن فيها سحراً أسطورياً يسيطر على كل من يأتي إليها، فلا يستطيع إلا أن يعود مجدداً، فكيف من تنفسها هواءً وعاشها حياة.

هو يقين بأن كل من ينتمي حقيقة لهذه البلاد سيعود، ليس لأن الحرب ستنتهي وينتهي معها هذا الكابوس وتزهر أحلامنا بالسلام والأمان مجدداً، وليس لأن بلادنا ستنافس أجمل البلاد بالعمران والجمال، وليس لأن الحياة ستفتح الباب واسعاً لهذه البلاد المباركة التي لا تستحق إلا أن تكون بلداً للمحبة والرحمة، كلها أسباب موجبة لكنها ليست الأسباب الحقيقية، هو سيعود لأن الوطن يسكنه ولا يكف عن عتابه، الوطن داخله  يلومه لغيابه عنه يوجعه في الداخل، وفي كل لحظة، هو وجع الحب، وهل هناك أكبر من حب الوطن، وهي دعوة للحياة من جديد، وعلى هذه الأرض كل الحياة..

” تقول لنفسك سوف أرحل

إلى بلاد أخرى .. بحار أخرى

إلى مدينة أجمل من مدينتي هذه

لا أرض جديدة يا صديقي هناك

ولا بحر جديداً

فالمدينة ستتبعك

وفي الشوارع  نفسها سوف تهيم إلى الأبد

ألم تر أنك يوم دمرت حياتك في هذا المكان

قد دمرت حياتك في كل مكان..”

كفافي – شاعر يوناني

 

هديل فيزو