ثقافة وفن

حظوظ مكسورة الخاطر

ألحّت ابنتي عليّ بشدة، تحت ضغط حلمها الطفولي البريء بحياة أفضل من السائد الآن، في ظروف الحرب الصعبة، لها ولأسرتها ولكل من تعرفه، بأن أشارك في إحدى المسابقات التي تجريها واحدة من الفضائيات العربية، عن طريق الاتصالات، وعندما يئستُ من إقناعها بأن حظ أبيها “كدقيق قمح فوق شوك نثروه، ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه”، وأن الحظ الآن بات يُصنع صناعة مشغولة بخبرة تجارية محنكة، لا مكان فيها لأثر الكواكب التي يزور بعضها بعضاً فتتغيّر أحوال الناس، وجدت نفسي مرة أخرى تحت ضغط طفولتها وعدم رغبتي في رؤية الحسرة على ملامحها بسبب عدم التجربة، أوافقها، وبدأت رحلتنا الطويلة مع هذه المسابقات التي تستنزف الأعصاب والمال حرفياً.

حجم الدعايات الضخمة التي تعلن عن هذه المسابقات، والأسلوب الذي تتبعه تلك الشركات في جعل المشارك يكاد يقتنع أنه على بعد لحظات من حلمه، جعل الصغيرة توقن أنها سوف تربح، وبدأت أحلامها تعلو أدوارها من طابق إلى آخر مع اقتراب يوم النتائج، وفي كل يوم ومع رؤيتي لثقتها بكونها ستفوز، كنت أفرح لفرحها وثقتها، وأحزن أيضاً لأني أعلم حجم خيبتها القادمة لا محالة.

تبدأ المسابقة برسالة تقول “رسالة واحدة ستغيّر حياتك”، إلا أن هذا ليس صحيحاً، فالأسئلة ستكرج تباعاً دون توقف، وهكذا كنا برسالة واحدة نحقق الأحلام، فصرنا “ماعم نلحق” كما يقال تشريج بطاقتها الهاتفية لتتابع مشاركتها، بعد أن تتحفز الثقة في داخلها بسبب رسالة حماسية، هي تتحفز ثقتها وأنا أدفع ثمن الوحدات بشكل جنوني، فالأسئلة لا تتوقف، والصغيرة لا تريد أن تقتنع بأن حظها سيخيب في هذا.

في يوم النتائج وفي الوقت الذي طالت فيه سهرة ابنتي وطموحاتها بأن جوالها سيرن بعدما تم وعدها بذلك، كنت أستعد للعمل على تجهيزها بشكل غير مباشر، لخيبة المسعى الذي سوف يحبطها ويهز ثقتها ربما آنياً بالحياة، التي لا تزال تؤمن بأنها تعطي لكل مجتهد نصيباً، فجوالها لم يرن يومها، والفرح الذي كان يتطاير من نظراتها الغالية، صار يخفت بالتدريج، ليتلاشى تماماً، عندما ربح المسابقة شخص آخر، وفي سؤالها لماذا لم تربحها هي رغم أنها شاركت ووعدوها بأنها ستربح، كانت إجابتي إنه الحظ يا ابنتي، لكنها قالت: لكنك لا تؤمن به، فكيف الآن تعتبره المسؤول عن خسارتي!.

ماذا أقول لك يا صغيرتي؟ هل أقول لك إن الحياة لا تحقق أحلاماً هكذا، وأنها تعطي من جهة وتأخذ الكثير من جهة أخرى، وأن حظ الإنسان مرتبط بالظروف التي تحيط به وبحربقته ومعارفه، لا بالاجتهاد كما تعتقدين؟ أم أخبرها أن أغلب الحكم والأمثال التي كنت أسوقها إليها من مثل “من جد وجد ومن سار على الدرب وصل” لم تعُد دقيقة تماماً، وأن المعايير الأخلاقية في “الحظ” تغيّرت الآن، ولم يعُد من المجدي مثلاً لمن لا “واسطة لديه” أن يقدِم حتى على مسابقة توظيف يملك كل مقوماتها التي لا يملكها من يربحها عادة!.

كان درساً قاسياً ومبكراً على صغيرتي التي حلمت أنها ستشيّد إذا ربحت، مدرسة كبيرة مجهّزة بكل شيء، لها ولرفاقها ولكل الأطفال الذين تراهم ينامون فوق الأرصفة وفي مداخل الأبنية والجوامع، الأطفال الذين سألتني مراراً أين أهلهم؟ ومراراً كانت الحسرة والخيبة جوابي اليتيم!.

تمّام علي بركات