ثقافة وفن

“فسيفساء التمرّد”..

عانت المرأة العربية عموماً ولفترات طويلة من ظلم المجتمع لها وانتهاك حقوقها، وخضوعها المطلق لسلطة الرجل، دون أن تكون لها كينونتها وشخصيتها المستقلة التي تستطيع من خلالها رفد الحياة بما يساهم في جمالها ونهضتها.

لكن المرأة السورية استطاعت وبجدارة تغيير تلك الصورة بتمردها على الممارسات الظالمة بحقها وإثبات نفسها كمكون أساسي في مجتمع لا يكتمل إلا بها، حيث كانت ومازالت المثال المحتذى بالعلم والثقافة والتنوير.

وإن كان حقاً للفن أن ينقل صورة واقع المرأة كما هو بشكل من الأشكال، لكن هذا لا يمنحه الحق بتكريس الصورة السلبية لها، بل وتجميلها وتنميطها والمغالاة بها وكأنها الصورة الأسمى والمثالية والوحيدة للمرأة السورية، فمن مسلسل باب الحارة “الشهير”، إلى “أشباهه”، من الأعمال التي مازالت الى الآن تقدم متوالية لها قد لا تنتهي، حيث تظهر المرأة في هذه الأعمال مغلوبة على أمرها، ومظلومة، وثرثارة، وما إلى ذلك من الصفات التي تكرس صورة سلبية جداً للمرأة وتقزيم دورها في الحياة عبر إظهارها امرأة منكسرة، أوجاهلة، أو خاضعة لسلطة الرجل “الأب أو الأخ أو الزوج”.

وفي المقابل يأتي الأدب ليمثل لنا الصورة الأخرى للمرأة السورية، الصورة التي تمثلها حقيقة والتي تعبر عن توجهاتها وتطلعاتها في أي زمان ومكان..

“أنا صخرة في قاسيون”..

بهذه العبارة التي رددتها زين الخيال، بطلة رواية “يا دمشق وداعاً- فسيفساء التمرد”، للأديبة السورية المتميزة غادة السمان، استمدت قوتها التي استطاعت من خلالها مواجهة واقع اجتماعي قاس، مجتمع كبلته العادات والتقاليد، وسيطرت عليه أعراف فرضت نفسها بقوة في فترة الستينات، وربما حتى الآن، حتى بات الخروج عنها جريمة يحاسب عليها المجتمع، ويعتبر المتمرد عليها إنساناً مرفوضاً وغير مرغوب به، وهو عرضة للتطاول والتهكم، إلا أن البطلة تأخذنا في تمردها كل مأخذ، فتقاوم بقوة لتشكل بذلك نموذج المرأة القوية القادرة على التغيير والتأثير بمن حولها، لكنها تصطدم بواقع مر يحاصرها من كافة الجهات ويجبرها على الوداع والرحيل، فالروح الحالمة لا تقبل بالقيود ولا تستطيع إلا أن تحلق بعيداً عن كل الاعتقادات والممارسات التي قد تأسرها حد الاختناق، لتلحق بحلمها وتثبت في النهاية أنها قادرة على الوصول وتحقيق الحلم..

تمضي الرواية بنا عبر أحداثها لتسرد لنا رواية مجتمع حقيقي بشخوصه ونماذجه المختلفة؛ واقعهم وأفعالهم، لتتوغل عميقاً في تفاصيلهم وأحوالهم النفسية..

فنرى عبد الفتاح الأب السادي المتسلط على عائلته، وبالمقابل هناك نموذج الرجل الذي تغلب على عقد السيطرة والتسلط لديه كالأب أمجد الخيال والد البطلة زين الذي كان الداعم الأكبر لها والسند الحقيقي في كل قراراتها، وغيرها من الشخصيات المؤثرة والحقيقية إلى حد بعيد..

“يا دمشق وداعاً”.. عند قراءة العنوان للوهلة الأولى يتبادر للذهن ما تعانيه دمشق اليوم، وسورية بشكل عام، من ويلات الحرب القاسية التي تمر بها، “الوداع” هذه الكلمة المرة التي فرضت نفسها رغماً عنا على حياتنا، من وداع للمكان والأهل والحياة، ففي هذه الحرب الموجعة كلنا معرضون وفي كل لحظة للوداع، ولعل الروائية أرادت إسقاط معاناة الأمس على معاناة اليوم، لتلقي الضوء على واقع صعب يتطلب التغيير وإعادة البناء على كل الأصعدة، والبداية من بناء الإنسان.

ورغم تناول الرواية لأحداث الستينات واختلاف الفترة الزمنية، إلا أن هذه الحرب لها أسبابها البعيدة والقريبة، ولاريب بأن الانغلاق والتمترس والانقياد دون وعي خلف أعراف وأفكار معلبة كان لها، بشكل قريب أو بعيد، علاقة بما حدث ويحدث..

لا يمكننا حين نقرأ الرواية إلا أن نسمع صوت غادة السمان وهي تتحدث بلسان زين، رغم تأكيدها في بداية الرواية، أنها من صنع الخيال الروائي فقط، وأن أي تشابه مع أحياء أو أموات إنما هو من قبيل المصادفة، لكن التشابه كان كبيراً بين الشخصيتين “غادة- زين”، وإن اختلفت بعض الأمور، لكن الأحداث الأساسية والعناوين العريضة لحياة كل من الشخصيتين هي نفسها، حتى في حديثها عن غزوان العائد، نرى صفات مشتركة بينه وبين المناضل غسان كنفاني، نستطيع استشفافها من خلال الخيوط المشتركة التي تجمع الشخصيتين؛ القوة، التمرد، النضال..

حتى في اختيارها للبطلة لم تتجه الروائية باتجاه الكمال فكانت زين حقيقية وقريبة منا، فهي تخطىء وتعترف بخطئها وتحاول تصحيحه..

والأهم أن الأديبة استطاعت إلى حد بعيد خلق المعادل لصورة المرأة السورية التي لطالما تم تكريسها بالخضوع الأعمى والانقياد اللامتناهي خلف الرجل، ومن خلال زين نستطيع أن نرى الوجه الآخر للمرأة في تلك الفترة، الوجه الذي فرض نفسه وبقوة فيما بعد..

“يا دمشق وداعاً.. فسيفساء التمرد” رواية صادرة عن منشورات غادة السمان- بيروت – 2015.

 

هديل فيزو