ثقافة وفن

تفاعُليّة مجموعات العلْم الكبرى ميزوْ ــ اختصاصيَّاً

مِن بدايات الثمانينيَّات تكثَّفت الفعاليات الفلسفية المركَّبة تعددية الاختصاص لينعكس ذلك في منشورات ودراسات ومحاور مناقشات عبر صفحات المجلة الأكاديمية الشهرية المتخصصة «قضايا الفلسفة» في غير عدد: في باب «نقْد وبيبليوغرافيا» نجد في العدد العاشر من المجلة لعام 1982 (ع/10/1982) عرضاً وتحليلاً (ص166 ــ 169 من المجلة) لكتاب متخصص في هذه المسائل، التي جرى التطرُّق إليها كلاسيكياً وبكثافة مذْ ذاك، هو كتاب: المشكلات المنهجية لتفاعل العلوم المجتمعية والطبيعية والتقنية؛ والمحررّون هم: «ب. م. كيدروف»، وَ«ب. ف. سمْيرنوف»؛ وَ«ب. غ. يودين»، موسكو، دار نشْر «العلم» (ناؤوكا)، 1981، 360 صفحة(1). ومنذ البداية إطناب بأهمية الدراسات المنهجية و«الميتاْ نظرية» (ما بَعد النظرية) وراهنيَّتِها المتعاظمة، وإشارة إلى أن الكتابَ مِن إعداد معهد تاريخ العلم الطبيعي والتقنية، الأكاديمي، وأن الكلام في الكتاب غير مقتصر على التفاعل بين «مجموعات» العلم الثلاثة المذكورة فقط، بل ويشمل تفاعل العلوم بعامَّة، فهي مجرد «نقطة/ أوْ جمْلة/ قياس» (أوضح أن هذا المصطلح اينشتيني مِن الفيزياء النسبية م. ن)، بينما الموقف الحقيقي الأعمّ منهجياً ورؤْيوياً مَوجودٌ هنا لأنه موقف يولّد الحاجة الاجتماعية والثقافية لدراسة تفاعلات مجموعات الفن والثقَافة والبنى الاقتصادية والاجتماعية والعلاقات الدولية وهكذا… إن التفاعل تحديداً هو موضوع الدراسة، وهذا التفاعل يكشف العلاقة (علاقة التفاعل) بين الفلسفة والعلم بمعيارٍ جوهري. والكتاب يحقّق درجة جديدة في فهمْ نوعين من التفاعل: طبيعة تفاعُل العلوم، وأيضاً تفاعل الفلسفة والعلم.

ولدى تصفّحي لعناوين المساهَمات والدراسات وأسماء المشارِكين والباحثين اقتنعْت أنَّ ثقلاً أكاديمياً قد وضع في الكتاب، لأنَّ أكثر الأسماء لامعة وأشْهر من أنْ تُعرَّف ولها باعاتُها ومواقعُها في هذه المسائل الدقيقة والعميقة، أمثال: فيدوسييف ــ كيدروف ــ أورْسول ــ فيْدُورينكو ــ يودين ــ سْمير نوف ــ مارْكارْيان (لاحِظْ معي هذا الاسم الأرمني: مارْ/كارْ/يان = قِدّيس الكار = مهنة قدّيس) ــ غوروخوف….

وأمَّا العناوين والمحاور والمساهَمات الأساسة فهي مِن قبيل ما يلي، منتظمةً في أربعة أجزاء:

1) الجزء الأول: الجدل كأساس فلسفي لتفاعل العلوم المجتمعية والطبيعية والتقنية (عنواناً عاماً):

1 ــ 1 ــ فيدوسييف: الفلسفة وتكامُل العلوم؛

1 ــ 2 ــ كيدروف: تفاعل العلوم باعتباره مشكلة علْمية ــ عامة.

1 ــ 3 ــ أورسول: المشكلات النظرية ــ المنْهجية لتأَسيس/ تبرير/ المستوى العلْمي ــ العام للمعرفة.

[وفيه لمحات ولمسات كثيرة مِن كتابِه الأشهر: الفلسفة والعمليّات التكاملية ــ العلمية العامة/ كتابه الهام الذي أقتنيه مذْ صدورهِ م. ن].

1 ــ 4 ــ شْريدر: وحدة وتفاعل العلوم المجتمعية والطبيعية.

2) الجزْء الثاني، ومن بعض مقالاتِه/ دراساتِه:

2 ــ 1 ــ أوْغورْتصوف: الطرق الأساسة (التأسيسيَّة Fund.) لاستجابة العلْم لِذاتِه.

2 ــ 2 ــ بيتْروف: مشكلة التناسب بين التفاضل والتكامل في العلم.

3) الجزء الثالث، وعنوانُه العامّ: تكامل المعرفة كقانونيّة/ قَنْونة/ للتطوُّر:

3 ــ 1 ــ فيدوريْنكو: تحليل الهرَمية/ التراتبيّة/ التعدُّدية (بولي…) في بنيْة العلم.

3 ــ 2 ــ يودين: تحليل التوجهات المنْهجية المختلفة لمجموعات العلم الرئيسة الثلاث.

3 ــ 3 ــ كثيرون (مع يودين): بناء برامج نظرية وتنظيمية لإنجاز تفاعل العلوم.

3 ــ 4 ــ ماركاريان: … اقتراح مبادئ و «باراديغْما» (دليل/ خطة إرشادية/ مخطط/ نموذج م.ن) التنظيم الذاتي.

4) الجزء الرابع أو الختامي: الأشكال الخاصة لتفاعل العلوم تجاوُباً مع متطلبات التطبيق المعاصر (غوروخوف ــ رودين ــ سيمونينكو)

وسندخل الآن إلى الصندوق ــ إلى محْفظة الرأي لهذه النخبة مِن أصحاب الرأي لالتقاط بعض اللمحات:

ــ رأى فيدوسييف أن عمليات تركيب الاستعراف العلْمي في الوقت الحاضر تضم مجالات العلم الأكثر تباعداً فيما بينها وليس العلوم الحدِّية/ الحدوديّة فقط؛ وتتشكل لديه فكرة مركزية في الكتاب الجماعي كلِه وهي فكرة لزوم توحيد جهود الاختصاصيّين من حقول مختلفة من أجل الإدارة الفعالة للإنتاج وللحياة الاجتماعية.

ــ الأكاديمي كيدروف ينسب مشكلة التفاعل إلى مسائل من أمثال: وضْع لوحة العالم العامة، إنشاء منظومة عامة للعلوم وتصنيفها، تاريخ المعرفة العلمية كلها وإجمالاً وقنْونات ذلك وهكذا…

ويؤكّد كيدروف على الوقْع الخاص لمسألة ترابُط العلوم اليوم: فالحديث يجري عن تغيير عميق وجذري ونوعي في بنية المعرفة العلمية المعاصرة ذاتها، وعن انقلاب كامل في منْهج العلم، وعن تحطيم التقسيم والتعضية في العلم إلى فروعِه المنْفصلة مما ثبت واستقر قروناً، وعن ولادة مقاربة جديدة مبدئياً لأساس ما يُسمَّى بالعلم.

ــ أورْسول قام في مقالتِه المضمونيَّة («المليئة» ــ وهذا وصف يستحقّه أورسول في كافة أعمالِه حقاً، وجاء التقييم في المراجعة بهذا المعنى دقيقاً وعادلاً وصحيحاً م. ن) ــ قام بتحليل الظواهر العلمية ــ العامة (وسائل الاستعراف) كمكوِّنات ارتكازية لتركيب وتفاعُل العلوم.

ــ يشير أوغورتصوف إلى مراحل متمايزة في تطور وتاريخ العلم من حيث التوجهات المنْهجية ويطرح مقاربتَين يُسمّي أولاهما تنميطية/تصنيفية/ تيبْولوجيّة ارتكازاً إلى، وتفكُّراً بـ، التقاليد المنطقية ــ النظرية التي يخضع لها ترابُط البُنى والعمليات الاستعرافية المختلفة.

أمَّا المقارَبة الثانية (وفي رأيي أنها الأهم والأندر بحثاً والأكثر إغفالاً وقد عبَّرتُ عن ذلك مراراً م. ن) فهي التي بدأت إرهاصاتُها في العصر الحديث من بدايات القرن العشرين وتضع في مركز الانتباه والاهتمام التوجُّهات القيمية للعلماء، وطرق تنظيم «نشاطِهم» و«تواصُلِهم»، وبعكس المقاربة الأولى تبرز هنا فكرة تعدُّد البرامج البحثية والمقاربات والمناهج النظرية، ومشكلة ترابُط العلوم تنتقل إلى الصفّ الثاني لتأخذ مكانَها مشكلة «التفاعل الاستعرافي» ــ Cognitive ــ بين العلماء، وتظهر في «حياة العلم» مقاييس جديدة ــ اجتماعية، واجتماعية ــ «سيكولوجيَّة».

ــ أمَّا بيتروف، فيعمل كما فعل أوغورتْصوف ــ حسب تعبير المراجِعين ــ إذْ يورد معطَيات تاريخية ــ علْمية مثيرة وشبْه مجهولة لوصف عمليات التفاضل والتكامل في «المستوى العمودي ــ المنْهجي»، العمليات المشروطة إلى درجة كبيرة بمواصفات وخصائص العلم «النشاطية/ السلوكية» و«المقياسية ــ البشَرية» (أو «الإنسانوْمقْياسية») حسب مصطلحات بيتروف [وهي آراء تُوافِقُنا تماماً وتنسجم مع رؤيتِنا كذلك مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ ــ م. ن].

ــ وفي تحليل فيدورينكو للهرمية/التراتبية/ التعددية في بنْية العلْم توضع الروابط الأفقية والشاقولية العديدة جداً ومتعددة النماذج.

ــ يودين تكلَّم عن مستويَين لترابُط العلوم: منهجيّ ومؤسَّسيّ؛ في الأوَّل يجري انتقال وترحيل الطرق والمبادئ والتصورات الأنطولوجية مِن مجموعة علوم إلى أُخرى، أمَّا في المستوى الثاني فيتم إنجاز توحيد الاختصاصيِّين مِن حقول مختلفة.

ولِتحويل تفاعل العلوم بمجموعاتها الثلاثة الكبرى ــ المجتمعية والطبيعية والتقنية ــ من إمكانية إلى واقع من المستحيل الاكتفاء بالوصف والتوصيف الذي يبقيه ناقصاً ما بقي في أطُر تحليل العمليات ضمْن ــ العلْمية (العلْمية الداخلية) والارتباطات والعلائِقيّات (تناسُب العلاقة)، بل الأمر يتطلب «ضمان تنظيم مركبَّات/ مجمَّعات المعرفة العلمية، الضرورية لِحل المشكلات المعاصرة الوطنية ــ الإنتاجية/الاقتصادية، والاجتماعية ــ السياسية، والثقافية ــ التربوية، وأيضاً العلْمية ــ التقنيّة…».

ــ وثمةَ مقالات أخرى في المجموعة اهتمّت، مثل يودين، بالبحث عن قواعد وأسس بناء برامج نظريّة وتنظيمية لإنجاز ترابُط العلوم [والجانب المؤسَّسي ــ التنظيمي تحديداً هو الذي كنتُ أركّز عليه دائماً، وبصورةٍ خاصة منذ بداية الثمانينيات معبِّراً عن ذلك مراراً، وكنتُ أجدُه الثغرة الأكبر و«البطل» الغائب في أدبيات التفاعل ومرجعيات التكامل بين العلوم ــ م. ن].

ــ في الجزْء الختامي يبيّن غوروخوف، ورودين، وسيمونينكو أنَّ التقنية ذاتها تصير موضوعاً لدراسة علوم مختلفة، كما تصبح ناتِجاً/منتوجاً للنشاط التكاملي ــ البحْثي والإنتاجي ــ التقني.

المجموعة تستحقّ ثناءً كبيراً وتقديراً، يَرى المُراجِعان: التعدُّدية السِياقيّة وعمق المعالجة لِمشكلات منْهجية وعلْم ــ علْمية معقَّدة.

وينضمّان [وأنضمّ إليهم جميعاً ــ م. ن] إلى الصوت المتعالي المتصاعد في المجموعة للمطالبة بأشكال تنظيمية أكثر فعالية تجاه العلوم «المتفاعِلة» وعدم الاكتفاء «بالسيمبوزْيومات» (وأنواع اللقاءات…) ثم الطباعة الانتقائية الاقْتطاعية لبعض موادِها، بل مِنَ الأجدى اللجوء إلى أشكال بديلة كالمشروعات البحثية المركَّبة (البرامج)، ومجموعات العمل المتخصِصة، مما يكون له مَخْرَج نهائي تطبيقي في الاستخدام، سواء في منظومة التعليم، أَم لأجل أجهزة تحديد السياسة في مجال العلْم.

 

هامش

([1]) «غ. ل. سْمولْيان»، و«ك. ب. شْوشْينكوف» ــ عرض كتاب/ باب «نقد وبيبليوغْرافيا»، «قضايا الفلسفة» الأكاديمية، ع/10/1982، ص166 ــ 169.

 

د. معن النقري