مساحة حرة

ماذا بعد الانسحاب الأمريكي من سورية ؟

مهما تعددت التحليلات وتباينت في تفاصيلها حول مسببات ودواعي سحب الولايات المتحدة الأمريكية لقواتها المتواجدة في سورية بشكل غير شرعي ، بقرار اتخذه الرئيس الأمريكي ” دونالد ترامب ” واعتبره كثيرون بأنه مفاجئ ، نجد أن القرار قد اتخذ نتيجة دراسات أمريكية معمقة في مطبخ السياسة الإستراتيجية الخاص بالإدارة الأمريكية بعيداً عن أعين وآذان الحلفاء والأدوات ، واتخذ القرار بالرغم من وجود معارضة من بعض أركان الإدارة الأمريكية ، لكن في الوقت ذاته يعلم جميع المتابعين للشأن الأمريكي بأن القرارات الحيوية والهامة لا يتخذها الرئيس الأمريكي منفرداً بعيداً عن موافقة صناع القرار الأساسيين في الدولة العميقة ، نعم نقر بأن أسلوب إدارة الرئيس ترامب محيرة ومربكة وتختلف عما سبقه من رؤساء أمريكان لجهة أنه يقوم بإشهار النوايا الأمريكية ويصرح علانية عن آلية تأمين المصالح الأمريكية ويفضح طبيعة العلاقات الخارجية التسلطية مع الأدوات المأجورة التي تعمل في فلك المحور الأمريكي كدول الخليج وتركيا وحتى مع دول القارة الأوروبية التي استثمرتها الإدارات الأمريكية أبشع استغلال بعد الحرب العالمية الثانية من خلال قيادة الولايات المتحدة لحلف شمال الأطلسي ” الناتو ” الذي تحمل مسؤولية حماية هذه الدول مقابل دفعها كامل تكاليفه المالية واللوجستية بما في ذلك الجغرافيا المخصصة لقواعده .

مما لا شك فيه أن قرار الرئيس ” ترامب ” جاء مفاجئاً بل صادماً لحلفاء أمريكا في المنطقة ، وعلى رأسهم حكومة الكيان الصهيوني التي اعتبرته ضربة لها في الصميم ، حتى حاخاماتها خرجوا بتوقعات تحمل بعض الرعب للشعب الإسرائيلي الذي يعيش في فلسطين المحتلة : ” بأن إبادة إسرائيل ستكون قريبة على يد الرئيس بشار الأسد ” ، وهذه رسالة توبيخ غير مباشرة للرئيس الأمريكي على أن انسحاب القوات الأمريكية من سورية هي هزيمة واعتراف بانتصار كبير للرئيس الأسد وحلفائه ، وفي الحقيقة لم يُجانبوا الحقيقة في تقديراتهم بأن العملية هي نتيجة حتمية لانتصار سورية وجيشها الوطني ومحور حلفاء سورية ، سيما وأن من حارب وهزم تنظيم ” داعش ” الإرهابي وبقية التنظيمات الإرهابية الأخرى على ساحة الجغرافيا السورية على مدى سبع سنوات ونيف هو الجيش العربي السوري وحلفائه ، وليس القوات الأمريكية وما أسمتها قوات التحالف ، ولن يغيب عن الذاكرة الجرائم الوحشية البشعة التي نفذتها الطائرات الأمريكية وحلفائها ضد الجيش العربي السوري والمدنيين العزل في مناطق كانت عصية على “داعش ” من أجل تسهيل وصول التنظيمات الإرهابية إلى تلك المناطق بما في ذلك قصف هذه المناطق بالفوسفور الأبيض المحرم دوليا ، وليس بعيداً عن أذهان المحللين والمتابعين بأن الإدارة الأمريكية وحلفائها في بريطانيا وفرنسا وغيرهم هم من أنشأ تلك التنظيمات بكافة تسمياتها وبتمويل خليجي ملزم لمواجهة محور المقاومة الذي تقوده سورية وإيران وحليفتهما الأساسية روسيا وإلى جانبهم الصين والعديد من دول العالم المعتدلة .

في حروب المصالح لا مكان للعواطف والصداقات ، كما في السياسة يكون الاهتمام بالنتائج بالدرجة الأولى مهما تنوعت وتشعبت الوسائل أو اختلفت التكتيكات العملاتية ، وفي الحالة السورية تأكد لإدارة الرئيس ترامب بأن خسارة الولايات المتحدة وجيشها الغازي أكبر بكثير من الربح سواء في الجانب المادي أو البشري وانعكاساتها في الشارع الأمريكي القادم على انتخابات رئاسية بعد أقل من عامين ، وبالتالي كان الانسحاب تحت يافطة الانتصار على ” داعش ” سيد الموقف للحفاظ على ما تبقى من ماء وجه أمام الشعب الأمريكي دون الاكتراث بمن سيملأ الفراغ ( إن كان هناك فراغ ) أو بمصير الأدوات المنتحبين على ما أسموه القرار الصدمة .

من المؤكد بأن الإدارة الأمريكية لن تعترف بالهزيمة بهذه السهولة ، كما أنها لن تتخلى عن مصالحها الحيوية في المنطقة ، ولا تستكين في حراكها الشيطاني المستمر لخلق البؤر والصراعات الدائمة بين الدول وداخل المجتمعات الواحدة كأفضل وسيلة لاستمرار سيطرتها على العالم ، لكن بعد هذا الفشل الذريع الذي مني به المشروع الأمريكي في سورية والذي ترافق مع تطورات دولية هامة غيرت ميزان القوى على الساحة الدولية بحيث لم تعد الكلمة الوحيدة النافذة في عالم اليوم لأمريكا ، وهذا ما ظهر جلياً في مجلس الأمن الدولي خلال سنوات الحرب على سورية ، عندما تم انتزاع القرار الفصل من اليد الأمريكية عبر الفيتوات الروسية الصينية التي حجمت الدور العدواني الأمريكي تجاه سورية وحلفائها ، بل قمعت الإدارة الأمريكية ومنعتها من تحقيق أحلامها بالهيمنة على المنظمة الدولية .

في النتيجة من المؤكد بأن القيادة في سورية وحلفائها في محور المقاومة لديهم من الحكمة والدراية بإفشال كل الخطط العدوانية من أي جهة كانت ، وما عجزت عن تحقيقه أمريكا بجبروتها ، لن يتمكن ثعبان المنطقة ” أردوغان ” من إنجازه ، ولن يكون مصيره بأفضل من مصير أسياده الأمريكان الذين غادروا بين ليلة وضحاها غير مأسوف على هزيمتهم ، وسيكون القرار الوحيد في المنطقة لبندقية الجيش العربي السوري البطل .

محمد عبد الكريم مصطفى