ثقافة وفن

أهل الحق والخير والجمال

 

لم تقتصر الحياة الثقافية والفكرية في البلاد خلال السنين الشداد التي مرت عليها، على الجانب النظري والتنظيري، أو ما يمكن توصيفه بالحد الأدنى من العمل في هذا المجال بما معناه “تمشاية حال”، بل أنها ذهبت نحو أبعد من هذا بأشواط عدة لا تصدق فعلا، لأنها لم تكن لتحدث في اغنى الدول وأكثرها ثروة وهي تمر بنصف ما مررنا به، ورغم المعاناة التي أصابت جسد هذه الحياة الثقافية والفكرية عموما، إلا أن من ينظر إليها وحسب نظرية “الجشتالتي”، فإنه سوف يرى إنجازات إعجازية فعلا، تحققت على أرض الواقع في هذه الحياة بكافة اشكالها، إن كانت فنية بما تتضمنه الكلمة من جوانب متعددة، وفكرية أيضا بما تحمله هذه الكلمة من أنواع للفكر، وهذا إن دل على شيء، فإنه بالتأكيد يدل على الروح العصية على الكسر، تلك التي خاض فيها السوريون في أحلك الأزمنة، بين مسارب هذه الحياة عموما، فأبو الفنون “المسرح” ورغم واقعه المرير، إلا أنه بقي محافظا وبشكل مدهش فعلا، على نهجه الدلالي والقيمي بما قدمه خلال تلك السنون من أعمال مسرحية، هي على قلتها، تعادل ما قد تقوم به أكثر من 5 دول مجتمعة لا تعاني لا من الحرب ولا من آثارها، السينما كذلك الأمر، ففي الوقت الذي من المفترض فيه تذهب النتاجات السينمائية لتكون قليلة ومنكمشة على نفسها في ظروف مماثلة، إلا أنها لدينا قدرت على التنويع في العمل السينمائي، سواء ذاك الاحترافي، الذي قدم العديد من الأفلام المحلية المهمة، الخارجة من رحم الألم والمعاناة، لتكون حقيقة لا تحتاج إلى أدلة وإثباتات على ما قدمته، خصوصا وأنها حازت على العديد أيضا من الجوائز الهامة في مختلف المهرجانات التي شاركت فيها، رغم الضغوط الني مورست بحقها، أو في الجانب الذي ذهب لاكتشاف المواهب السينمائية الشابة في الكتابة والإخراج، تلك التي نما وعيها في أتون الحرب، لتكون محراك “التنور” الإبداعي، الذي سيذكره التاريخ ويذكر إنجازاته الكبيرة، التي ترافقت وإنجازات الميدان الحربي الإعجازية أيضا، لأبناء هذا البلد، العصي على الكسر والقهر، لتظهر أيضا عشرات بل مئات الأفلام القصيرة، التي احتضنتها، وزارة الثقافة بمؤسساتها المختصة، كاشفة عن الجانب البطولي العظيم، في فن الحياة كما في حياة الفن، لدى الكثير من شبابنا وهم يشقون وسط ركام الحرب وشظايا حقدها، طريقا ناصعا، ستخلده الأيام وهي تحكي قصة هذا البلد وأهله، وهم ينتزعون الحياة من بين براثن الموت، ويصنعون مالا يمكن صنعه في مدة زمنية كالتي مرت، وبالظروف الصعبة ذاتها أيضا.

الأدب بعمومه أيضا، شعر، رواية، نصوص مسرحية، قصص قصيرة، أبحاث أدبية مهمة، وغيرها من ضروب الفكر والأدب، معارض تشكيلية، معارض للكتاب، وغيرها، أعلنت عن حضورها وبقوة في الحياة العامة واليومية، تلك الحياة التي لم تستطع القذائف والمفخخات والتفجيرات أن تنال من عزيمتها ولو قيد أنملة، ومن يذهب إلى الإصدارات الأدبية بعمومها التي ظهرت خلال الحرب، سيذهله لا الكم فقط، بل التنوع في تناول مواضيع مختلفة، بما ذهبت إليه فيما سيق وذكرناه.

إذا الحياة الإبداعية التي عادة ما ينوس ضوئها في زمن الحروب، لم يكن هذا حالها في بلد عظيم كهذا البلد، الذي أظهرت الشدائد معادن أبنائه، إن كان في الحرب، أو في الحياة العامة بصنوفها، أماس شعرية وقصصية وغنائية لم تتوقف في المراكز الثقافية وغيرها من المنتديات التي أعلنت بما لا يدع مجالا للشك، بأننا أهل فكر وعلم، كما أننا أهل حرب على ضراوتها، نقاشات وحوارات حول مختلف أنواع الفنون والآداب، أعمال درامية تلفزيونية لم ينل الوهن من مفاصلها، سواء اتفقنا على النوعية أو اختلفنا، نقدٌ أدبي وفني لم يُكتب مثيله سابقا، فما تم إنجازه خلال السنوات الثمان التي مرت، يكاد لا يصدق؛ هذه البلاد ولادة كما يقال، وما من جانب فيه كبا لنا فيه كبوة، إلا وقام مقابلها عشرات، بل مئات القفزات المذهلة حينا والمعجزة أحيانا أخرى، حصار مضروب من كل مكان تقريبا، وحرب ضروس لم تقف رحاها حتى اللحظة، إلا أن الحياة لم تتوقف عجلاتها عن الدوران، ها جائزة سينمائية لذاك الفيلم في مهرجان هنا، وجائزة مسرحية في مهرجان هناك، والأهم الذي سوف يكون لنا فيه من الخير ما فيه، هو تلك المواهب الإبداعية النبيلة، التي كشفت الحرب عنها، فروح الإبداع لا تتجزأ ولا تنحسر، وهذا ما كان، مئات الدواوين و الإصدارات الشعرية والقصصية، التي جادت بها قريحة شباب يبتكرون الفرح من الحرف، عدا عن الكثير من المفاجآت المذهلة الني تحققت حتى في أسوأ الأماكن وأكثرها مأساوية، كما جرى في تحويل أنفاق الموت إلى أنفاق للفن والإبداع، أشجار آيلة للسقوط، صارت تحف فنية في الهواء الطلق، شوارع مرّ فيها الخراب، وعندما عادت، ظهرت بأبهى حللها، حتى يكاد يقسم من مشى فيها، أن الحرب يستحيل أن تكون قد عبرت من هنا، دعونا لا ننسى أيضا الجهد العظيم الذي تم بذله في الإعلام الوطني بأنواعه، المقروء منه والمسموع والمرئي، ذاك الذي خلق من الضعف قوة، ليظهر المشهد السوري العام وحسب النظرية التي كنا أشرنا إليها في بداية المقال، بكامل رونقه وأبهته، وكأنما الحرب المسعورة لم تكن إلا إكسسواراً، علقته البلاد عبى صدرها بفخر وعزة، وهي تمضي نحو غد، لا ريب، هو الأجمل والأبهى والأنقى، وإن سأل الزمان يوما: ماذا فعلتم في تلك الأيام الطويلة الحالكة؟ فسيجيبه التاريخ: هؤلاء الذين لم تقهرهم آلة الموت التي صُعت ليكونوا طعامها، هؤلاء من علموا الحياة نفسها كيف تكون الحياة، وعلى جدار الوقت كتبوا بأحرف من نور، نحن أبناء الحياة، نحن أبناء الحق، والحق يقف إلى جانبه الخير والجمال، فهل تصدفون حقا أنه وبعد الآن يمكن لأي مصيبة مهما كبرت وعظمت خطوبها، أن تنال من هذه الروح الجبارة بما هي عليه؟، ليس منذ عام أو عقد أو قرن، بل منذ الأبد، وإلى الأبد، فهذا ديدن أهل هذا البلد، وهذا خياره الوحيد، الانتصار للحياة، الانتصار للحق والخير والجمال، لأننا ببساطة أهل الحق والخير والجمال.

تمّام علي بركات