ثقافة وفن

الموناليزا ليست الموناليزا!!

أحد أعظم ألغاز العصر الحديث هو السبب وراء أن لوحة عمرها 500 عام لربة منزل من مدينة فلورنسا، ليست ذات مكانة أو لقب، هي اليوم أكثر اللوحات شهرة في العالم. لكن الغموض الذي يكتنف تلك اللوحة قد زاد عمقاً اليوم.

وتشير الاكتشافات الحديثة إلى أن أكثر أعمال ليوناردو دافنشي شهرة قد لا تكون لوحة تصوّر موناليزا، زوجة تاجر الحرير فرانشيسكو ديل جيوكوندو، على الإطلاق. على سبيل المثال، لفترة طويلة اعتقد خبراء الفن أن اللوحة رسمها ليوناردو في أواخر عمره، نظراً لاستعماله الكثيف لتقنية الـ “اسفوماتو” [المزج التدريجي للألوان] أو المعالجة الداكنة “الدخانية”، إلا أن مذكرة مخطوطة بخط اليد، اكتُشفت في مكتبة جامعة هايدلبرغ، كشفت أن ليوناردو رسم العمل في عام 1503، أي قبل عشرة سنوات على الأقل من التاريخ الذي حدده الخبراء. وعلاوة على ذلك، يدّعي جورجيو فاساري، وهو كاتب سير ذاتية من القرن السادس عشر، أن ليوناردو عمل على اللوحة لمدة أربع سنوات فقط ثم تركها دون إكمال، وهذه معضلة أكبر، لأن الموناليزا معروضة في متحف اللوفر بشكل أبرز من أي عمل آخر لليوناردو. وما يزيد الطين بلة أن ليوناردو نفسه أخبر أحد زواره في عام 1517 أن اللوحة قد رُسمت لجوليانو دي ميديسي، شقيق البابا ليو العاشر، وهو الذي عاش ليوناردو تحت رعايته في روما بين عامي 1513 و1516.

لِمِ يُعدّ هذا الأمر مهماً؟ الإجابة البسيطة هي أننا نعتقد أن هذه المصادر لا تتطابق لأنها لا تتحدث عن ذات اللوحة، بعبارة أخرى، لا بد أن هناك نسختين من الموناليزا، كل منهما رسم بيد دافنشي، هل هذه نظرية ثورية؟ لا أبداً، فنحن نعلم، على سبيل المثال، أن ليوناردو رسم نسختين من لوحة “عذراء الصخور”، الموجودة الآن في متحف اللوفر والمتحف الوطني في لندن، تماماً كما رسم نسختين من لوحة “العذراء تغزل النسيج”، التي توجد الآن ضمن مجموعات خاصة، وفي العديد من أعماله، سمح ليوناردو لمعاونيه “بملء” الأجزاء الأقل أهمية، كالخلفية والملابس، بينما ركز على الأمور الحساسة: الوجوه والأيدي، وكان لهذه العملية غرضان، فمن جهة، سمحت لمساعدي ليوناردو بتعلم تقنية معلمهم، ومن جهة أخرى، زادت من عدد الأعمال التي يمكن بيعها. كما عمل ليوناردو ببطء شديد ولم ينتج سوى 18 لوحة على حد علمنا، ويشكل ذلك مشكلة عندما يكون لديك ورشة كبيرة والعديد من الأفواه التي يجب إطعامها.

ولكن في حال رسم ليوناردو نسختين من الموناليزا، فأين تلك الأخرى؟ خلصت الأبحاث الدؤوبة، ولا سيما تلك التي أجراها سالفاتور لوروسو وأندريا ناتالي في جامعة بولونيا، في عدد من اللوحات المحتملة إلى نتيجة غالبة وهي لوحة تُعرف باسم “إيزلورث موناليزا”، التي كان يُعتقد لفترة طويلة أنها نسخة مقلدة. ويكشف الفحص الدقيق أنها على عكس نسخ الموناليزا الأخرى من القرن السادس عشر، فإن “إيزلورث موناليزا” ليست نسخة مقلدة على الإطلاق، ففي الجوانب الرئيسية، بما في ذلك حجمها وتكوينها ومنظرها وسطحها (حيث أنها رسمت على قماش الجنفاص، وليس على الخشب)، فهي تختلف بشكل لافت عن لوحة الموناليزا الموجودة في متحف اللوفر. علاوة على ذلك، إنها تصور ليزا ديل جيوكوندو كشابة جميلة، وهذا أمر منطقي، لأنها في عام 1503 كانت ليزا تبلغ من العمر 24 عاماً فقط، على عكس شكل المرأة الرزينة التي تحدق بنا من وراء زجاج مضاد للرصاص في متحف اللوفر. وهنا الحجة القاطعة: إن لوحة “إيزلورث موناليزا” غير مكتملة، كما كتب فاساري تماماً، فمعظم الخلفية لم يتقدم أبعد من الجيسو [مادة تشبه الغراء توضع قبل الرسم على اللوحة].

فلماذا إذن لم يمعن أحد آخر النظر في نسخة إيزلورث؟ الجواب هو أنه خلال معظم السنوات الـ 500 الماضية لم تعرض هذه اللوحة على مرأى من الجمهور. وأول من اقتنى هذا العمل هو أحد النبلاء الإنكليز في القرن الثامن عشر، فقد تم اكتشاف العمل في عام 1913 بواسطة تاجر أعمال فنية بريطاني، واسمه هيو بلاكر، خلال زيارته لمنزل فخم في سمرست، بعد ذلك أمضت اللوحة معظم القرن العشرين في السراديب، ويعود سبب ذلك جزئياً لحمايتها من الحربين العالميتين، وفي ستينيات القرن الماضي، اشتراها جامع تحف يدعى هنري بوليتزر، الذي حفظها بعد ذلك بوقت قصير في سرداب آخر، ليتم اكتشافها في عام 2012. واليوم سيتغير ذلك، لأن هناك خططاً لعرضها في أرض مولدها في وقت لاحق من هذا العام – كجزء من الاحتفال بالذكرى السنوية الـ 500 لوفاة ليوناردو في عام 1519، وفي ذلك الوقت سيكون العالم كله قادراً على رؤيتها في كامل عظمتها – كتشبيه حقيقي لأم شابة جميلة ستبقى تحتل عقل ليوناردو لبقية حياته.

هذا يقودنا إلى السؤال الأخير: إن كانت إيزلورث موناليزا هي النسخة السابقة بالفعل، فمن هي المرأة الأكبر سناً في اللوحة المعروضة في متحف اللوفر؟ هل هي لوحة أحدث للسيدة ليزا ديل جيوكوندو، رُسمت لها وهي في منتصف العمر؟ ولكن لماذا يريد جوليانو دي ميديشي، وهو أرستقراطي نافذ لديه العديد من العشيقات، لوحة لزوجة تاجر حرير؟ وهل من الممكن أن تكون اللوحة المعروضة في متحف اللوفر تصويراً لإحدى عشيقاته بدلاً من ذلك؟ يتبادر إلى الذهن عدد من المرشحات، لكن الحل الذي يبدو جلياً في نظرنا هو الحل الأبسط كذلك: لم تعد الموناليزا في متحف اللوفر تصويراً لشخص معين، ففي حين استخدم ليوناردو نفس الرسم التحضيري الذي اتبعه في النسخة السابقة، إلا أنه لم يعد مهتماً برسم صورة فنية لوجه حقيقي، بل أراد أن يخلق صورة مثالية عن الأمومة وقوى الخلق الغامضة، كما يتضح من المشهد البدائي في الخلفية. وعلينا أن نتذكر أن ليوناردو قد أُبعد عن والدته كاترينا عندما كان عمره خمس سنوات فقط، لهذا السبب أسرت ليزا قلب ليوناردو، لأنها في عام 1503 كانت بعمر والدته في آخر ذكرى له عنها. ولهذا السبب أيضاً اختار ليوناردو ليزا مرة أخرى في لوحة اللوفر، ليس ليرسم تصويراً لها، بل ليصور جمال الأنوثة الأبدي وأسرارها.

ترجمة: علاء العطار

 

https://www.alternet.org/2019/03/why-is-the-mona-lisa-not-the-mona-lisa/