ثقافة وفن

يمرون أمامنا!!

لا يغير طريقة جلوسه.. ظهره مستند على أحد جدران المسجد الأموي، يخبئ انحناءة الزمن وانكساراته معه، ساعات تمر وهو يرتب بضاعة صينية رخيصة، ثم يعاود غفوته ورأسه إلى رب السماء. لا يستعجل الرزق ولا يهتم للمارة، نادرا ما يتوقف عند طاولته المهترئة أحد. وجهه شاحب ولكن الرضا باد في عيونه وفي ابتسامته الباردة التي لا توحي إلا بالبؤس وحكم القدر القاسي. لا يكلم أحدا من الباعة الذي يجاورونه. ثيابه “السفاري” مرقعة على عجل بألوان متعددة، أكل عليها الزمن وتآكلت خيطانها. هل يحلم هذا الشيخ مثلا وهو مغمض العينين لو أنه الوليد بن عبد الملك أو أحد المهندسين أو الفنانين الذين أعادوا بناء هذا الصرح الذي يعد واحدا من العجائب الإسلامية السبع؟!! أو لو كان تاجرا من تجار المدينة الأغنياء؟ أم أنه عقيم ويحلم بأن يكون له أطفال، أو لربما أنجب الكثير منهم وتركوه وحيدا وهاجروا إلى السويد أو ألمانيا!!

لا أحد يدري إلا هو وسكون المكان من حوله.. أذان العصر اقترب، جمع سلعته في حقيبة من الخيش وطوى طاولته ومضى..

مرّ أمام عاشقين وترك خطوات ما تبقى من العمر تجره إلى اللامنتهى من الذكريات…

حبيب أصبح رقمه خارج الخدمة، مات شهيدا ودفن مجهولا، أو أنه في زنزانة ينتظر رفقاء السلاح  ليحرروه، لا أحد يعلم سوى محبوبته السرية التي تضرب وجهها على حظها العاثر. رحل دون وداع وتركها غارقة في الحب، وألف سؤال ولا جواب في ذهنها.. سوى رجل جديد لا يعرف عنها سوى اسم عائلتها. تراقب حقيبة المسن وهو يمشي ببطء شديد، فيما الرجل الجديد يحكي عن بطولاته في التجارة وهي تلاحق العم.. في أي لحظة يمكن أن يقع وهي لا تتمنى أن يتكرر ما جرى لها معه، فالسقوط في هذا العمر كالوقوع في الحب ليس سهلا ابدا، بل مؤلم حد الانكسار والهزيمة.

باعة متجولون يلهثون وراء المارة، وصبيان يركضون لتلبية طلبات “المعلمين” وأطفال يشدون أمهاتهم من أثوابهن مصرين على شراء البوظة من “بكداش” وأزياء وأقمشة وزينة تحاكي أهل المدينة وتتحرش بالمتجولين.. غاب المسن في الزحام، جسد خاوي تقذفه الأقدام والأكتاف كريشة، خطوات تتوالى دون عتب ولا أحدا  يلاحظها!!  ذلك الخطيب المغرور ببدلته التي اشتراها خصيصا لغوايتها لم تفعل فعلتها، فالفتاة الجميلة لا تنظر إليه ولا إلى غيره، وتكتفي أيضا بالمسير في جنازة فقيد القلب. المعزون كثر ينظرون إلى الحزينة التي ترافق الغريب، خرجت من الطريق الذي استعادت فيه كل ذكريات المحب وقلبها ينوح ولا أحد يسمعه.

استأذنت خطيب العائلة بسرعة واستقلت سيارة أجرة نحو المهاجرين، الحي الذي سكنه المقدسيون والشراكس والشيشان والأتراك وغيرهم الكثير. هذا المكان الدمشقي الذي كان أرضا زراعية بات اليوم يحمل أحلاما ميتة، وأخرى غريبة، والكثير من القصص اليومية لكل السوريين. عند سفح قاسيون وقرب حي المالكي، تنزل الفتاة وتركض إلى بيتها لتبكي في غرفتها بشهقة الفرس على الفارس الذي رحل باكرا في حرب لا تزال رحاها تدور.

الفارس أسير والرجال لا يبكون. علمته طبيعة قريته الصمود في وجه الطبيعة وقسوة والده.. علمته الإباء والصبر. لم تعد الحبية تحتل المركز الأول في اهتماماته، تذكر قصيدة لدرويش “رائحة الأرض تُوقظني في الصباح المبكر.. قيدي الحديدي  يوقظها في المساء المبكر.. هذا احتمال الذهابِ الجديد إلى العمر”.

تساءل بينه وبين نفسه بصوت عال وهو يسمع أصوات وخطوات سجانيه:

“يسألون عن الأرض: هل نَهَضَتْ

طفلتي الأرضَ!

هل عرفوك لكي يذبحوكِ؟”..

أخرجوه من الزنزانة، نكلوا به أمام رفاق السلاح الذين اختطفوهم في كمين، وأعادوه، لم يئنّ ولم يحتج ولم يكلمهم، لا مفعول للكلمات مع هؤلاء المتوحشين، فقط النار قادرة على اختراقهم، مجانين ومدمنون وسفهاء وقتلة مأجورين، الصبر هو سلاحه والصمود هو صمته الذي سينجيه ليعود ويقاتل هؤلاء المعتوهين الذين لا يعرفون سوى الذبح والتفجير.

يفكر بسورية وبما يجري فيها ودقات ساعات تحرير كل الوطن من الإرهاب أكثر من التفكير في خديجة، لم يكن له سواها ورتبته العسكرية،  جميع أفراد عائلته استشهدوا، لم يرحم هؤلاء المعتوهين لا سنّ والديه ولا شباب اشقائه.

الوطن سرق قلبه كله حين حمل السلاح وحارب وخديجة أصبحت الأمل.. خديجة الحبيبة التي حفظ قصيدة “الأرض” لدرويش عن ظهر قلب من أجلها، هي الفلسطينية السورية التي أحبته الى آخر نفس.. يشعر اليوم أن القصيدة تشبهه ولا تشبهها “خديجةُ ! لا تغلقي الباب.. لا تدخلي في الغياب”!!

خديجة ستنتظره ولن تتزوج ورفاقه سيعودون وينقذوه وأطفال المسن أيضا.. والأرض هي لنا وستعود وهم مارون ونحن باقون..

سلوى حفظ الله