ثقافة وفنسلايد

فرسان وعروش.. الدخول في سرداب “الوهم”

استطاعت “أليس” ببلادها العجائبية أن تحتل الحيز النوعي من مساحة الذاكرة الجمعية لطفولتنا، بالقدرة نفسها التي امتلك فيها “هاري بوتر” القدرة على أسر جيل كامل بمغامراته الهاربة من الواقع، وسط عالم يفرض سيطرته تحت تأثير قوة الخيال والخداع البصري والعبثية وتسيد اللامعقول واللامنطقي..

امتلك هذا النوع من الأدب، الذي يندرج ضمن إطار فن الخيال أو الوهم “الفانتازيا”، سحراً خاصاً مكّنه من بناء مساحته المؤثرة وسط مختلف الأنواع الأدبية وتطورها، بدءاً بالأساطير الملحمية مثل جلجامش والالياذة والأوديسة، انتقالاً إلى “سيد الخواتم” و”هاري بوتر” و “صراع العروش” وصولاً إلى “ثلاثية ابن إسحاق” و”فرسان وكهنة”.

عوالم غرائبية خيالية، على أهميتها، وقوة حضورها، إلا أنها شكّلت، خلسة، ودون إدراك أو وعي، النموذج “المثالي” لجيل، بل لأجيال كاملة، فكان لها أثرها البالغ عند المتلقي وحصدت شعبية لا يمكن إنكارها، خاصة حين تحولت من نصوص روائية إلى عروض مرئية، والإشكالية أن مساحة هذه العوالم تزداد اتساعاً وتأثيراً، يوماً بعد يوم، عندما سُمح لهذا النوع من العروض أن يفرض نفسه وبقوة، وحين رصدت له الميزانيات الطائلة، وتهيأت كل الإمكانات للترويج له وتحقيق الانتشار على أوسع نطاق، وكان له ولصناعه ذلك بالفعل..

المسألة هنا أن هذا النوع الأدبي الوهمي اللاواقعي، لم يكتف بحدوده المعقولة التي لا يجب أن يتجاوزها، بل إنه سبق غيره من الأنواع الأدبية الهامة بمراحل ليتسيّد المشهد الروائي العالمي والعربي حتى، واضعاً وراءه كل التجارب الأدبية الواقعية الجادة التي تجعل المتلقي في مواجهة مباشرة مع حقيقته وهمومه وأزماته، في إغفال متعمد لدور الأدب الحقيقي في التغيير والمعالجة وإيجاد الحلول، على صعيد الإنسان والحياة، لتصبح المغامرة والعبثية واللاواقعية هي الحدث والغاية.

وفي الوقت الذي يغزو هذا النوع الأدبي “الفانتازيا” المشهد الروائي العربي، بشكل واضح مؤخراً، تجد توجه الشباب المتلقي واضحاً لهذا الأدب حتى يكاد يفضله على أي نوع آخر، في ظل احتفاء الروائيين أنفسهم بالفانتازيا وتفضيل الكتابة فيها، حتى إن هذه الروايات باتت مؤخراً تتصدر قائمة المبيعات، فمن “روايات الغول الأحمر الأخير” إلى “إنتيخريستوس” إلى “زيكولا” إلى “يوتوبيا” إلى “أماريتا”، وغيرها الكثير من عوالم افتراضية هي أبعد ما تكون عن الواقع في تفلّت واضح من الحقيقة والزمان والمكان، دون أن تقدم أي تجربة شعورية هادفة، ومهما حاولت أن تقدم معادلاً موضوعياً للواقع أو تصوراً للمستقبل، إلا أنها لن تدرك الغاية كونها تقوم على الافتراض والخداع والسحر والعجائب دون حجة أو منطق.

لا شك أن الواقع عموماً، والواقع العربي على وجه الخصوص يحمل من الهموم والمسؤوليات المترتبة عليه ما يجعلنا نبحث، ولو مؤقتاً، عن مساحة للهروب من واقع صعب، ولكن أياً كانت مسببات الهروب منه جلية وقوية، إلا أنه يشكل الحقيقة القائمة التي لا بد من العودة إليها ومواجهتها في انزياح للواقع ومحاولة تطويعه كي يتناسب مع تفاصيل الحياة وأزمات الإنسان، مع الحرص ألا يستحيل الهروب طريقاً دائماً وأسلوب حياة.

لا يمكن نكران أهمية أدب “الفانتازيا” كونه فناً قائماً بحد ذاته، كما لا نغفل أهميته بالنسبة لكل منا، كونه يشكل الذاكرة البراقة والماضي المبهر وحتى الحاضر المتخيل الذي نحن بحاجة للجوء إليه في وقت ما، ولكن، وفي الوقت نفسه، لا بد من التنبه ألاّ يغيّب هذا العالم الوهمي الواقع الحقيقي المعاش، وألا يسيطر على حياة المتلقي فيما يشبه الانسلاخ عن الواقع تماماً فيصبح أسير خيال مزيف يسيطر عليه للدرجة التي تفقده السيطرة على حياته وواقعه وحتى نفسه.

هديل فيزو