ثقافة وفن

“يوتوبيا”.. حين يتنبأ الأدب بالمستقبل

عندما لا يكتفي الأدب بتجسيد الحياة بجمالها وآلامها وتفاصيلها وعثراتها، ويأبى أن تقف حدود قدرته على تكوين الوعي الأمثل للتغيير وإعادة البناء الذاتي والفكري، بل تأخذ رسالته الحياتية أبعاداً أكثر عمقاً وأشد تأثيراً، في ذلك الحين بالذات، يؤكد، وبجدارة، أنه أخذ على عاتقه المهمة الأصعب، ولعلها تكون رسالته الأهم التي تنطلق من الواقع لتسمو بالمستقبل.

المستقبل؛ هنا بالتحديد تبرز أهمية دور الأدب الذي نتحدث عنه، هذا الدور الذي يتبنى الحاضر ويقرؤه بكل أبعاده وجزئياته وبأعمق دلالاته وصولاً إلى القدرة على “النبوءة بالمستقبل” فالنظرة الثاقبة والواعية التي يمتلكها الأديب في قراءة الواقع توصله لامتلاك القدرة على التنبؤ المستقبلي بالحدث قبل وقوعه، ورؤية خفايا غيبية خطيرة، أحياناً، يراها هو دون سواه، تثبت الأحداث اللاحقة مدى واقعيتها، فيأتي دور الأدب في التنبيه لها ومحاولة تفاديها قدر الإمكان.

حين كتب الروائي أحمد خالد توفيق “يوتوبيا” لم يعلم أنه إنما ينسج نبوءته الخاصة التي ستتحقق، نبوءة انطلقت من واقع مخيف لتجسد واقعاً آخر أشد خوفاً، لتتبنى مهمة التحذير من الواقع ومحاولة تغييره، هرباً من المستقبل الظلامي الذي استحضرته الرواية بدقة متناهية، وبدلالات رمزية تنبأت بتفاصيله وجزئياته..

“يوتوبيا”؛ مدينة الأغنياء في مصر، المعزولة عن أرض الفقراء، المحاطة بالأسوار وبالخوف من كل جهاتها، المسوّرة بمآسي الفقراء وجوعهم وغضبهم وسعيهم لعدالة يفتقدونها، ما جعلها تعيش الخطر الداهم في كل لحظة، فأراد الكاتب من خلال مدينته الروائية أن يشير إلى واقع مظلم قائم متمثل بالتفاوت الطبقي الكبير الذي تعيشه مصر، محذراً من عواقب استمراره خلال المرحلة القادمة، فالصراع بين الطبقتين في الرواية، والذي وصل ذروته، انتهى بحراك شعبي واسع، تنبأ به الكاتب في روايته، قبل أن يتجسد واقعاً في مصر خلال أحداث الخامس والعشرين من كانون الثاني 2011.

ما هو أشد غرابة وخطورة أن المدينة بكاملها التي تنبأ بها “توفيق” في روايته باتت أمراً واقعاً، حيث أُعلن في مصر عن تشييد مدينة تشابه إلى حد بعيد ما وصفه الكاتب في روايته، وستكون جاهزة للسكن خلال عام ٢٠٢٠ وهو التاريخ الذي يقارب الزمن الذي اختاره الروائي لمدينته “يوتوبيا” في الرواية.

العاصمة الجديدة، التي هي قيد البناء حالياً، رُصدت لها الأموال الطائلة، وكشفت أسعارها المرتفعة، أن الفقراء لا مكان لهم فيها، أما المثير للريبة فهو تدشين سور حول العاصمة الجديدة، يعزل من بداخلها عن محيطهم الخارجي، في مشهد يوحي بالجدار العازل الذي يعزل الأغنياء بالداخل عن محيط الفقراء الخارجي، هذه المدينة استطاع توفيق أن يتنبأ بها وبوجودها وبمعالمها وينذر من عواقبها حتى قبل تجسدها وتحولها لحقيقة قائمة، أما المصيبة الكبرى هي إن تماثلت البنية المجتمعية والقيمية والروحية لهذه المدينة حقيقة مع “يوتوبيا”.

التشاؤم المبالغ فيه، الذي يكتنف الرواية، وخاصة نقطة تفريغ المجتمعات من المبادئ والقيم، متعمد ومقصود، أراد من خلاله الكاتب أن يوصل رسالته الأدبية بالتنبيه والتحذير مما هو آت، ما يفسر عدم الواقعية والمبالغة في بعض مشاهد الرواية، أما بالنسبة للعنوان فالمفترض أن يكون “ديستوبيا” المدينة الفاسدة، وليس “يوتوبيا” المدينة الفاضلة، لكن الكاتب إنما أراد أن يحقق حلمه، متفائلاً بأن يرى مدينة فاضلة مختلفة تماماً عما ينبئ به الواقع السيئ الذي يتوقعه؛ فأتت تسمية الرواية كنوع من الالتفاف على المعنى من خلال التسمية المضادة.

استطاع صاحب يوتوبيا أحمد خالد توفيق أو “العراب”، أن يحقق بأدبه الفرادة والاختلاف، العراب الذي وصلت نبوءاته إلى حد التنبؤ بموعد وفاته الذي ذكره في أحد مقالاته: “كان من الوارد جداً أن يكون موعد دفني هو الأحد 3 نيسان بعد صلاة الظهر”، جملة كتبها الروائي تنبأ فيها بيوم وفاته وموعد دفنه، وشاء القدر أن تتحقق كما لو أنه  كان يرى مشهد رحيله أمام عينيه.

 

هديل فيزو