مساحة حرة

أحوال شَخصيّة

المدن تخترع ذكرياتها

تخترع المدن ذكرياتها، تكتبها على الريح والماء ووجه التراب والرمل، على الجلود الناضجة، وتلك التي لم يحن أوان قطافها بعد.

المدن تخترع ذكرياتها وتكتبها بحبر من دم، فتسيل هذه الذكريات أرصفة وشوارع ومحال ومقابر، مسارح ودور سينما، حدائق عامة وبيوت سرية للحب السريع وغيرها.

المدن لا تنسى أن تدون في كتاب طبائعها، أدنى نأمة تصدر من بين أحشائها، حتى لو كانت حركة سكون فوق حرف ما.

تخترع المدن ذكرياتها وتدونها، دون أن تعنيها إن كانت تلك جنازة جندي فقير، مات وعاش شهيدا، أو جنازة لص، مات لصا وعاش لصا، فهي عندما تدون الموت، تكتبنا كأرقام، ولا تحفظ أسماءنا.

المدن تخترع ذكرياتها لتنساها، فلا يعنيها في صفحة اليوم، حكمة البارحة ولا توقيع البارحة ولا حتى أحلام البارحة المؤجلة إلى الغد، تمضي الأحلام في ذاكرة المدن كما دخان السجائر إلى لا مكان أو لا زمان ولا حتى إلى رغبتها بالنسيس العالي.

المدن تخترع ذكرياتها، وتنكرها حتى قبل صياح الديك ثلاثا، إنها لا تقيم وزنا للعواطف، ولا شوارع فيها تصلح لأن تكون طريقا سريا للعشاق

إنها المدن وجعنا نحن أبناء الأغصان، وطعنة الماء المنتشرة فوق ملامحنا كتهم جاهزة سلفا بالنكران.

البارحة اليوم غدا

في الحرب، البارحة يذهب مع البارحة، ما من وقت في اليوم للحاضر والبارحة معا، هذا ترف لا تعطيه الحرب، البارحة بآلامه وآماله، بأحزانه وبكل ما فيه، يذهب، يصبح ماضيا على قيد الذكرى.

هكذا تجبرنا الحرب أن نتعامل مع الزمن، فكل يوم هو حدث نفسه، ويذهب البارحة مع البارحة، لكن صور أساه وقهره تبقى رائحتها محمولة في الهواء، صور للوجع معروضة في معرض في الهواء الطلق، وفي كل وقت، حتى بات المرور بينها وكأنه عادة يومية مألوفة، وهكذا يصبح البارحة ماضيا مع البارحة، أما غدا فماضِ للأيام القادمة بعد غد!

البيت فكرة

اخرج من البيت كمن يخرج حتى لا يعود، حتى أنني لا أُعير انتباها إن كنت أغلقت الباب، أو لا، ثم أجدني أقف مساء على عتبته، أسلم عليه واعتذر من أبوابه وشبابيكه، قبل أن أرمي نفسي في أحضانه بكل ما علق بي من وحل الحياة الموجود صيف شتاء في الخارج وعلى عتبات القلب أيضا، طالبا إليه أن اغفو فأنا مرهق وهو كعادته لا يتذمر، يفرش لي بسطه الوديعة ويضع الطاولة وعليها صينية الطعام يضعها بقربي، وهو يعزم علي لأكل دون خجل.

وعندما استيقظ اسمع صوته يروح ويجيء في المطبخ، يغلي القهوة دون أن يسألني كيف أفضلها.

لقد حفظتني حيطانه ومراياه وعتباته وكأني من بقية أخشابه أو أعمدته، التي تم ملئها عوضا عن الإسمنت باللطف الخفي، ذاك الذي يتبعني كغيمة، كلما خرجت من بابه مغاضبا حالفا ألا أعود إليه … وهكذا.

مجرد رسالة

انتظر ربما من ألف عام ودهر، رسالة يحملها ساعي البريد، الراكب على دراجة، مسموعة زقزقة دواليبها عن بعد كيلو متر، يرن جرس الباب كما في الأفلام، افتح الباب يبتسم بود ويسألني عن اسمي وهو يعرفه، ليعطيني رسالتي ثم يطلب إلي أن أوقع أني استلمتها، أي الرسالة.

أحملها بيدي كعصفور هش، أشم رائحة المظروف، وأحاول أن أخمن ممن هي قبل أن افض بكارة ختمها، وعلى طاولتي حيث أجلس افتحها بكل هدوء وأنا أتحاشى أن اقرأ مباشرة ما فيها.

رسالة مجرد رسالة، حتى لو كانت تائهة، أو أن العنوان تمت كتابته بشكل خاطئ، فوصلتني أنا، لتصبح لي أنا.

انتظر رسالة يحملها ساعي بريد لا يصل، على دراجة مكسورة وصدئة لا تسير، ولن أملَّ انتظارها ما حييت.

أما تلك الرسائل الإلكترونية، فإنها مُرهقة جداُ، مُرهقة كجبال على الكتف يا نديمي.

تمّام علي بركات