مساحة حرة

رسالة إلى أم علي

كل وعكة صحية كانت جدتي لأبي تُرجع سببها إلى البرد، ولو كنا في منتصف شهر تموز! ولديها علاجها الذي لا يُخطئ وهو مغلي النعناع الأخضر مع عود قرفة وقشور رمان مجففة مع ملعقة عسل.
قضيت فترة من دراستي الثانوية في القرية، بعد أن ضاقت بصدري كل مدارس دمشق العامة والخاصة، وبسبب مشكلة مع أحد الأساتذة لسبب لا زلت اعتقد أنني كنت مصيبا بما فعلت حتى لو دفعت الثمن، في حال عرف الأستاذ خطأه ولم يعد إليه مرة ثانية، المهم تم فصلي من مدارس العاصمة وانتقلت للدراسة في مدرسة قريبة من القرية، بالنسبة لي هذه نقلة نوعية في حياتي، والعقوبة أو ما يُفترض أنها عقوبة مدرسية، كانت بالنسبة لي أجمل من عطلة في أجمل شواطئ هاواي، أو أي مكان آخر في العالم.
كان عليّ أن امشي أنا وأحد أصدقاء العمر، مسافة ٣ كيلو مترات ذهابا وإيابا إلى ومن النقطة التي كنا نصل إليها لنمتطي “سرفيسا”، أو “ميكرو باص”، للوصول إلى المدرسة، والعودة منها إلى المكان الذي سوف ننطلق منه في رحلة الكيلو مترات الـ3، للعودة إلى البيت سيرا على الأقدام، مترافقة خطواتنا وأمنيات ذاك الزمان العظيم.
في قريتي، كما مختلف المرتفعات الساحليّة، المطر يكاد لا يتوقف شتاء تقريبا، في ذاك الزمان كان المطر بالنسبة لي قصيدة رومانسية مبللة، وكان من نتائج الذهاب والإياب تحت المطر وأنا ارتدي بغرور تلك المرحلة، بذة الفتوة فقط، فلا حاجة بي لجاكيت، وأنا في حال كنت ارتديها وهطل المطر، فسوف اقوم بخلعها، أما دفع ثمن ذاك الغرور الرومانسي، فقد كان ينتظر هبوط الليل، ليبدأ المغص الذي لا علاج له إلا علاج “أم علي” التقليدي.
كانت وهي توبخني بحنان لا يوصف تحثني على أن اشرب شرابها المرّ، وفعلا كنت ارتاح من المغص، بينما تُعيد على مسامعي الجملة الشهيرة “البرد سبب كل علة”.
رحلت جدتي لرحمة ربها، وأنا لا زلت حتى الساعة، حتى لو أُصبت بطلق ناري، أُرجع ما بي من ألم إلى البرد، واتعامل معه كما كانت تتعامل معه “مريم” صاحبة الجديلة الفضية الطويلة، التي كانت تخفيها تحت غطاء من حرير طبيعي، وشغل اليد لا المكنة، لكن المشكلة أن النتيجة لم تجئ كما كانت، عندما كان شرابها السحري، يشفيني من كل ألم حتى ذاك الذي في النفس، المخفي، الغامض.
“ستي”، ماذا كنت تضعين في الشراب غير النعناع الأخضر وقشر الرمان المجفف مع عود قرفة وملعقة عسل بالله عليك؟ ماذا كنت تضعين أيضا؟ فأنا موجوع، وأريد علاجا شاملا لكل ألم كالذي كنت تصنعيه بيديكِ، والمكونات التي أضعها، تماما كما كنت أراك تضعينها في ركوة قلبك، بعد منتصف الليل فوق النار، تراقبين بهدوء غليان مائها، أضعها أيضا وفي التوقيت نفسه الذي كنت تستيقظين فيه على أنيني من ألم معدتي لتصنعي شرابك السحري، لكن دون فائدة.
لو سمحت حيث أنت الآن ارسلي لي رسالة صوتية مسجلة، تخبريني فيها بجواب لسؤالي، أُريد كما قلت لكِ علاجك الناجع لكل ألم، حتى ذاك الذي يحفر بشوكة معدنية حادة في تراب الروح ليثقبها.
لا تتأخري بالرد لو سمحت، صارت روحي مثقوبة كبطانية تدرب عليها الجنود بالرصاص طيلة الليل.
المُرسل حفيدك الشقى ابدا.

تمّام علي بركات