مساحة حرة

“إرهاب” إعلامي

 أن يمتلك الإعلامي أدواته المعرفية والحوارية هذا أمرٌ لا بدّ منه، أمّا أن يحوّل هذه الأدوات إلى أسلحة حرب نفسية وقصف لجبهة ضيفه مستعرضاً قدراته الكلامية في الهجوم، مستغلاً ضعف الضيف وعدم قدرته على مجاراته، متخلّياً عن أخلاقيات مهنته وأصولها، فذلك أمرٌ آخر لا بدّ من الوقوف عنده.

الأمر أن أحد البرامج الحوارية الذي يعرض على قناة لبنانية، استضاف أفراد عائلة سورية من أجل توضيح تفاصيل وملابسات قضية باتت تشغل الرأي العام مؤخراً، المصيبة أن الإعلامي المشهود له بحنكته وقدرته وموضوعيته انقلب فجأة إلى محقق وقاض مرة واحدة، وانبرى يكيل الاتهامات للضيف بحدّة مستفزة وبصوت مرتفع، محاسباً إياه على أدقّ تفاصيل كلامه، مترصّداً زلاّته، بأسلوب يفتقر للحد الأدنى من معايير الحيادية الإعلامية.

ونحن في عصر “الإعلام الجديد”، الذي تحوّل فيه كلٌّ منّا إلى “إعلامي” له رأيه الذي يكوّنه ويجاهر به في مختلف القضايا وينشره ويدافع عنه باستماتة وتعنت بعيداً عن المنطق والموضوعية؛ بتنا أحوج ما نكون لشخصيات إعلامية حقيقية نقتدي برؤيتها الصائبة وفكرها التنويري، تكون قادرة على حمل الرسالة وترك الأثر، وتقوم بالمهمة كما ينبغي لها أن تكون، ومع أننا بتنا نشكو من ندرة هذه الشخصيات في عالمنا العربي، إلا أنها موجودة، لها متابعها الذي بنى علاقته بها عبر سنوات من التأثر الفكري وتبني الآراء، لكنّ الخيبة تعود للمتلقي فجأة حين تتجرد هذه الشخصيات من أصول المهنة وحين تغيّب صوت العقل منحازة لعصبيتها ولرأيها الشخصي الذي قد يكون بعيداً عن الصواب، لتضيق ساحة المهنية الإعلامية أكثر وتضيق معها ساحة الحقيقة، التي نبحث عنها جميعاً، وسط فوضى مدّعي الحقيقة.

ما يقوم به الإعلاميون مؤخراً من خلال برامجهم الحوارية، خاصة تلك التي تعتمد على”حرب الأصوات” و”الصّراع الحواري”، بات يتنافى مع الدّور الأسمى للإعلام الذي يتجسد من خلال أهدافه المجتمعية والتي لا تقتصر على إشباع الحاجة المعرفية ومواكبة التطورات والمستجدات على المستويات كافة، وتشكيل الرأي العام، والبحث عن الحقيقة، بل تتعدى ذلك لتصل للدور التربوي والتثقيفي الهام الذي يحمل على عاتقه مسؤولية غرس القيم في المجتمع، وترجمتها إلى سلوك وأسلوب حياة، هذه المهمات الجسام تستوجب خلق صناعة إعلامية سامية ومتطورة في آن، تحمل من المصداقية ما يكفي لنيل الثقة والود وبناء علاقة متوازنة ثابتة وقوية بين الإعلام بمختلف أشكاله وبين المتلقي الذي هو بأمس الحاجة لمن يحتويه ويحترم إنسانيته في المقام الأول وقبل أي أمر آخر.

هذا الإعلامي لم يحمل سلاحاً حقيقياً ولم يشهره في وجه ضيفه، لكنه مارس بأسلوبه إرهاباً أشد وقعاً وأكثر ألماً من أي سلاح آخر.

 

هديل فيزو