ثقافة وفن

الفلسفة والفكر الميتافيزيقي

وفق نظرة بحثية سريعة إلى أهم أشغال الفكر الإنساني ونتاجه التاريخي، سيرى المتتبع أن الفكر الميتافيزيقي ظل منذ النصوص السماوية المقدسة وحتى “هيجل” مرورا بفلاسفة العقلانية، ثم مفكري الأنوار، يعمل إلى إيقاف حركة التاريخ وتعطيل الحياة المنفتحة على التنوع والكثرة، وذلك بالعمل على إخضاعها عنوة إلى منطق الوحدة والتجانس، ولئن انتحى الفكر مناحٍ عديدة ومتنوعة وانتهج مناهج مختلفة؛ من الوحي إلى القياس، فالبرهان العقلي الرياضي ثم التجريبية الفيزيائية فالجدلية العقلانية ثم الجدلية المادية والتاريخية، فإنه ظل على الدوام مهووسا بهاجس تملّك الحقيقة المطلقة ضمن نمط محدد متناسق ومتجانس، وكان المبتغى دائما هو رد الكثرة والتنوع إلى الوحدة والتطابق، وحدة الكون، وحدة الطبيعة، وحدة العقيدة، التاريخ، المصير، فلقد كانت مظاهر الكثرة والتنوع والتناقض تربك الإنسان وترعبه، لأنها تجعل عملية احتواء الكون والسيطرة عليه ذهنيا وعمليا، عملية معقدة وصعبة التحقيق، فكان عليه أن يسعى إلى إيجاد الاختزالات والتبسيطات عبر ابتداع التعميمات والتجريد والبحث في فن التشابه فالتجانس.

هذا ما جعل الفلسفة في الماضي مهووسة بترتيب العالم وذلك من خلال سعيها الدائم الى امتلاك الحقيقة والإمساك بالكون، وذلك من خلال بناء الانسجام وتعميم صورة التجانس والتطابق ووحدانية الحقيقة، متخذة في ذلك عدة اقنعة يطغى عليها بريق القيم السامية، التي لا يجرؤ أحد على الشك في سموها؛ سمو الروح وقداسة الحرية الباطنية “هيجل”، الحرية والمساواة والأخوة “فكر التنوير”، والتقدم والحرية مع تحقيق الرفاه وحقوق الأنسان “الليبرالية الحديثة”، وبغض النظر عن إثبات أو نفي صحة هذه المبادئ والقيم ومدى صلاحيتها، فالسؤال الذي يطرح نفسه مع كل حدث تاريخي يعيد خلط هذه الأوراق الفلسفية مرة أخرى، هو عن كيفية تشكلها في الذهن عموما و الغربي بشكل خاص، وعلى آية أسس أيديولوجية وبُنى ذهنية تأسست؟

إن كانت السمة الأساسية للعالم والمجتمع هي التحول والتغيير والتجدد، فإن شيئا واحدا ظل ثابتا لدى الإنسان، وهو النفور الدائم من المختلف والمغاير، فلقد ظل الفكر والعمل البشريين ومنذ قرون بعيدة، موجهين نحو محاولة صدّ التغاير والاختلاف بطرق شتى، فلدى الإغريق القدامى، كان من لا ينتمي لجنسهم يُعتبر همجيا! وكل اللغات الأخرى هي لغات همجية وبربرية، ولقد تبنى هذه الفكرة وتداولها كبار شعرائهم ومفكريهم، وكان كل من لا يتكلم العربية، هو بالنسبة لأهلها أعجميا، ولدى الأوروبيين ظلت عبارات مثل “الهمج، المتوحشون، البدائية”، مستعملة استعمالا شائعا، يطلقها هؤلاء على كل الشعوب غير الأوروبية التي عرفوها ليس ابتداء من الرحلة الكارثية ل “كولومبس” والحملات التي تبعتها، ولم يخرج عن هذا المنطق أعظم فلاسفة القرن التاسع عشر “هيجل، ماركس”، فلقد خصص هيجل سلسلة محاضرات عن “العالم الشرقي” ضمن محاضراته الشهيرة في “فلسفة الروح”، والتي كانت خلاصتها أن هذا العالم خال من الروح والكرامة والحرية والذاتية، وأن قدره المحتوم هو الخضوع للإمبراطوريات الأوروبية المتقدمة!

ولئن كان هذا التصور يهدف إلى تقديم المجتمعات الأوروبية على أنها أرقى ما بلغته الإنسانية من تطور، فهو يعكس النظرة “الشوفينية” لهيجل، وستشهد لغة الكتابة نفسها هبوطا ملحوظا، من المستوى المفهومي التجريدي الذي تميزت به كتابات “هيجل” إلى حد استعمال نعوت قريبة من السباب.

لقد اعمت مثالية ” الميتافيزيقية “هيجل” على سبيل المثال لا الحصر، فأكبر فيلسوف لأوروبا في القرن التاسع عشر، تعامى عن إدراك عمق التجربة الذاتية لكل شعب وأمة على حدة، وغابت عنه الخطوات المعرفية التي خطتها كل حضارة على حدة، بطرق مختلفة ومسالك متنوعة، لكنها الدرب الشاقة نفسها باتجاه الكشف عن جوهر الوجود، وذلك بما يلائم كل فكر وكل حالة إنسانية.

 

اختلاف منطق التفكير، لا يعني الخروج من منطق الفكرة ذاتها، هذا ما سيثبته فلاسفة الأنوار “فولتير، ديدرو، روسو، ليسينغ وغيرهم”، فلقد سعوا وهم ينشدون “اللاشكية” إلى التخلص من سيطرة اللاهوت، ولكنهم في سعيهم هذا كانوا يحاولون بناء سقف جديد، أو إطار معرفي جديد، اعلنوا الاحتكام إلى الطبيعة والإقرار بسلطتها تحت ما يسمى “الحكمة الطبيعية”، وكان فكرهم مهووسا بترتيب العالم ترتيبا جديدا، فلم يسعهم أن ينظروا إليه في تعدده وتنوعه إلا كصورة للفوضى، فجعلوا له الطبيعة إطارا منظما ومرتبا لعالم الكثرة و التعدد والتنوع، أما بالنسبة لرؤيتهم بخصوص النظام الاجتماعي، فإنهم واستنادا إلى مبدأي الحكمة والانسجام الطبيعيين، قد أقروا بضرورة التفاوت الاجتماعي، ورفضوا مبدأ المساواة الاجتماعية، معتبرين مبدأ الحرية معوضا عنه، ولم يشذ عن هذا الرأي إلا “روسو”.

عموما سيرى المتتبع للفكر الفلسفي الغربي، الأوروبي منه بشكل خاص، أن النهضة الفكرية التي رفعت شعار إعادة الاعتبار على الانسان، انتهت به إلى أنماط اجتماعية وسياسية كليانية شمولية لم تراع فيها كرامة غالبية البشر، وإن مراجعة بسيطة للفكر الذي ساد العالم منذ قرنين من الزمن، ستوضح وبجلاء أن خلاصة سيادة هذا الفكر جاءت مثقلة بالآلام والحروب والاعتداء على حقوق الإنسان فيما يزيد على ثلثي الكرة الأرضية.

هذا الضغط المعنوي الهائل الثقل، أو ما يُعرف بـ: “روح العصر” لم يستطيع المفكر فيه إلا أن يجد نفسه منجذبا للاستجابة إلى مثيراته بطريقة أو بأخرى، وقلما استطاع مفكر أن يفلت من هذا الشرط، وتبعا لهذه العلاقة بين المفكر ومحيطه، فإن التاريخ لم يشهد حركات فكرية ذات أهمية إلا داخل المجتمعات التي كانت تعيش حركة حضارية شاملة متعددة الأوجه، فالفكر ليس سوى مظهر من مظاهر الحياة، التي تعيش ذاتها وتخبر ذاتها، وتفصح عن ذاتها أيضا.

تمّام علي بركات