مجتمع

أسرار حكايات أمي

 

مازال صوت أمك يطرق باب الذاكرة التي تأبى أن تتجاوز الطفولة داخلك، لتبقى أسير صوت وكلمة وخيال مجنح لا حدود له، يسرقك نحو عوالم غرائبية ملونة مفعمة بالحياة ومسكونة بالعجائب والأساطير، لتخلق أسرارك المطرزة في نسيج طفولتك، المركونة في دهاليز الماضي وخبايا الروح، أسرار تتجول بين قدر ومشهد وحكاية خلقت عالماً بأكمله تحت جناح الخيال.

الحكاية التي بدأت منذ الطفولة لا تنتهي بانتهائها، بل تمتد العمر كله، فهي مكتنزة بالحب الذي تبثه الأم عبر صوتها الخالد داخلنا أبد الدهر، والقصص التي لطالما أضاءت عتمة الليل ما زالت محفورة فينا، وما زال أثرها الذي تركته حين سمعناها للمرة الأولى راسخاً لا تمتلك الأيام والأحداث القدرة على محوه، بل إنه يكبر فينا ومعنا ليطوّع نفسه في مسرح الحياة وينعكس قولاً وسلوكاً وفكراً ومواجهة متوازنة للواقع مهما كانت صعوباته.

وإن كان للأدب أشكاله المختلفة، إلا أن الحكاية تعد من أهم هذه الأشكال، ولعلها أقدم فن أدبي عرفه الإنسان، فالأدب القديم بمجمله قائم على الملاحم والأساطير والحكايات، وأبهى أنواع هذه الأدب وأكثرها تأثيراً يتجلى في أدب الطفولة، وعلى هذا الأساس تعتبر الحكاية أكثر الأنواع الأدبية انتشاراً وشيوعاً بين الأطفال، وأشدها جاذبية لهم.

هي ليست دعوة لإحياء عصر الحكايات فحسب، إنما للتبصر بجدواها وإدراك أهميتها أيضاً التي لا تقتصر على تشكيل حيز مهم في وعي الطفل وتحفيز الخيال والإبداع لديه، والانتقال من دائرة خبرته المحدودة ببيته وعائلته لعوالم وشخصيات وأزمنة أخرى، بل تتجاوز ذلك لتشكل المتنفس الضروري لرغبات الطفل المكبوتة، وتعوضه عن الحرمان الذي قد يشعر به في حياته، كما يمكن اعتبارها نافذة ثقافية في مرحلة مبكرة من عمره تشعره بأهمية الكلمة، وإذا كان الطفل يحتاج لأعوام ليصبح قادراً على التعرف على الآداب المكتوبة، فإنه قادر على التفاعل مع الحكاية في سنوات عمره الأولى، ما يجعلها فترة مهمة جداً للتكوين النفسي للطفل، وهنا لا بد من الإشارة إلى نقطة أساسية، وهي أن دور الحكايات لا يقف عند حدود الخيال فقط، بل ملامسة الواقع أيضاً بجماله وقبحه وخيره وشره، ما يخلق الاستقرار النفسي والتوازن السلوكي الضروري للطفل في رحلته الحياتية، وإيجاد السبل الكفيلة لمواجهة صعوباتها.

والسؤال الذي يفرض نفسه، أين نحن من الحكاية الآن، وهل مازال هناك متسع من الوقت لها ونحن في عصر تسيّد التكنولوجيا وسيطرتها على أغلب مفاصل الحياة، حيث وصلنا للمرحلة التي لا يمكننا فيها إنكار أن التكنولوجيا قد اخترقت بنية الأسرة عموماً، وتركت أثرها فيها، ولا نبالغ إذا قلنا أنها تمكنت من تفكيك البنية الأسرية العربية التي لطالما تميزت بالاستقرار، لتبعثر العلاقات النفسية والوجدانية ضمن العائلة الواحدة، وتسيطر الغربة والعزلة بين أفرادها، من هنا تتأتى أهمية إعادة التواصل المباشر من قبل الأهل مع أطفالهم لردم الفجوة وسد هذا الفراغ العاطفي ولخلق أجواء الود والانسجام والتواصل المطلوبة داخل البيت الواحد، ولعل ذلك لا يكون ذلك إلا بالكلمة والعبرة والحكاية.

الحكايات في بلادنا لا تنتهي، وهي ليست أسيرة الماضي، فهناك آلاف الحكايات والأساطير التي يخطها أبطال حقيقيون، فكل يوم هناك بطل يترك خلفه ملحمة تستحق أن تروى، والأجدر بنا أن نرويها لأطفالنا الذين سيخوضون معركة الحياة عبر أبواب تخبئ وراءها أسرار الأمنيات وآمال الغد التي لا تحقق إلا بالإرادة والإصرار والحلم وحكايات الأم الأبدية.

 

البعث ميديا || هديل فيزو