ثقافة وفن

ما هي جماليات الإبداع في النقد والشعر العربي؟

 لقد اعتاد النقد العربي القديم التعامل مع النصوص الأدبية تعاملاً انطباعياً في أغلبه، وإذا ما حاول تحليل النص فهو لا يتعدى أن يكون تحليلاً لغوياً أو نحوياً أو بلاغياً في أحسن أحواله، وهو غالباً ما يصدر حكمه الجمالي من حيث اقترابه من العرف أو ابتعاده عنه، ولذلك عدوا من عيوب المعاني (مخالفة العرف والإتيان بما ليس في العادة والطبع)، ولم يتعدّ تحليلهم الجانب الحسي في التأويل المجازي، ولذلك نراهم قد عابوا على أبي تمام ما سموه (قرابة التشبيه) في قوله:

     لا تسقني ماء الملام فإنني

                صب قد استعذبت ماء بكائي

وحجتهم أن الأوجه لنسبة الماء إلى الملام، وهم كانوا في أحكامهم على النص أحد اثنين: إما أنهم يتحدثون عن خصائص النص الموضوعية (وفق مفهومات خارجية للجمال والقبح)، فهو نقد موضوعي، أو يعبرون عن (إحساسهم إزاء النص) فهو نقد ذاتي، ومن الطبيعية أن يكون لكل متلق ذائقته الخاصة التي تجعله يتفاعل مع النص سلباً أو إيجاباً، غير أن تفاعل تلك الذائقة أحياناً يكون مبنياً من عوامل موضوعية تتأثر بالمعنى الذي يراه المتلقي جميلاً وفق منظومته الفكرية والأخلاقية والثقافية، ولذلك نجد أن بعض الخلافات بين النقّاد في أحكامهم على بعض النصوص متأثرة أحياناً بآراء شخصية إزاء صاحب النص أو أن ذلك الخلاف متأت من موضوع وفكرة النص نتيجة لرأي سياسي أو اجتماعي، أو هو ناشئ عن وهم في إدراك البعد الجمالي للنص، ومن ذلك موقف النابغة الذبياني في بيت (حسان بن ثابت) الذي يقول فيه:

     لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى

                وأسيافنا من نجدة يقطرن بالدم

فقالوا: لو قال البيض، ولو قال يبرقن بالدجى، ولو قال يجرين بالدم لكان أحسن، وقد اعترض على ذلك (قدامة بن جعفر) ورأى أن (لمعان السيوف في الضحى أكثر بلاغة من لمعانها في الدجى، فمن عادة الأشياء أن تلمع في الدجى، ولكن ضوء النهار يفوق لمعانها فينعدم أثره، ويقطرن أفضل من يجرين). والدم يقطر من السيوف عند القتال ولا يجرين والجريان كما أرى ينطبق على الذي ينبع من المصدر وليس من المسبب، ومن غريب ما عابه (الثعالبي) وغيره على المتنبي قوله:

     كم وقفة سجرتك شوقاً بعدما

                غريَّ الرقيب بنا ولجّ العاذلُ

فقال: «فلم يحسن موقع قوله (سجرتك)، أي ملأتك، ولو كانت بالحاء من السحر لم يكن باس، وهو كلام غريب من مثال (الثعالبي) لا أجد له تفسيراً، فإن سجره: أي ملأه وقوداً وأحماه، وقد ورد في قوله تعالى (وإذا البحار سجّرت) وقوله تعالى أيضاً: (في الحميم ثم في النار يسجرون)، فأين سحرتك من سجرتك في قوة المعنى المراد، ولا شكّ أن تشبيه الشوق بالنار الحامية أكثر قوية وأعمق معنى وأبعد غاية وأجمل صورة، وأضاف له (المتنبي) واستحسنه (الثعالبي) وهو غاية في الروعة والجمال قوله:

     دون التعانق ناحلين كشكلتي

                نصب أدقهما وضمَّ الشاكلُ

ومن هنا يمكن القول إن آراء النقّاد بُنيت على الإحساس بالجمال، وليس فهمه، أي إنها بنيت على الحدس وليس التصوّر، في حين أن (فهم الجمال كما هو عملية معرفية بطبيعتها وليس انفعالاً)، وكجانب انفعالي فإننا نقرأ قول المتنبي:

     سقتها الغمائم الغرُّ قبل نزوله

                فما دنا منها سقتها الجماجم

     وكان بها مثلُ الجنون فأصبحت

                ومن جثث القتلى عليها تمائم

وهي صورة غاية في الجمال من الناحية البلاغية، ومن إرادة بيان شجاعة الممدوح وبطولات جيشه، ولكننا لو تأملنا الصورة كمنظر مجرد من مبررات، فإننا سنُصدم بمنظر غاية في البشاعة والقبح، ولا أقصد بالجمال والقبح هنا كقرينتين للخير والشر، بل بما يتركانه من أثر سلبي في النفس، فلا يمكن لنفس سوية أن تحسّ بمتعة النظر إلى مكان يعج بأكداس الجثث والجماجم، ولو افترضنا وجودها فلاشك أنها ترتكز على بواعث سادية، ووأنا هنا لا أريد أن أتّهم الذائقة العربية بأنها ذائقة سادية، فمن المؤكد ستبرز أمام عيني عدة مبررات، مثل الدفاع عن النفس أو الحق، ولكني في الوقت نفسه لا أتغاضى عن التعجب من التفاعل الإيجابي مع هكذا صور قبيحة، سواء الشاعر، أو الممدوح، أن النقد، ولو افترضنا جدلاً أن التفاعل الإيجابي كان مع جمالية التصوير الذهني، لا مع واقعية المشهد، كما نتفاعل مع لوحة (الجرنيكا) لبيكاسو مثلاً، ونقد ذلك في القول: (إن الجرنيكا هي من قبيل الإدانة للبشاعة، بينما صورة (المتنبي) من قبيل المدح والفخر بتلك البشاعة)، وأنا هنا لا أريد أن أقول إن تجميل القبح هو عربي، بل إنه يشمل جميع الشعوب، وعلى امتداد العصور، وكمثال على ذلك لو تمعنّا في لوحة (الحرية) لـ(ديلاكرو) أيضاً فسيهولنا منظر الأقدام التي تدوس على الجثث المكدّسة، غير أن ما يحسب له أنه لم يشوّه الجثث، بل رسمها بكامل هيئتها، وهو فعل خفيف من صدمة المشهد كما أرى.

إن تقديم القبح بقالب جميل لا يمنع من اشمئزازنا منه، ولكنه في الوقت نفسه لا يمنعنا من التمتع بجماليات عرضه، ومن المفترض أن يكون رفضنا له بالذات، كما أن إعجابنا بطريقة عرضه لسببين: موضوعي وذاتي، والموضوعي أن تتجسد الإدانة له في العرض، والذاتي لجماليات الصورة التي قدّم بها، وليس هذا من باب كونه شراً ولا كون الجمال خيراً، وإن كان متضمناً لهما في طبيعة الحال، بل لأن القبيح كما أرى قبيح بذاته والجميل جميل بذاته.

 

   د.رحيم هادي الشمخي

أكاديمي وكاتب عراقي