ثقافة وفن

بين السّرد والرّؤيا البصريّة.. عندما تشيخ الذّئاب.. المواجهة مع المجتمع والواقع

أن يخوض أيّ عمل، سواء أكان أدبيّاً أم فنيّاً، في شؤون الدِّين، فهذا يعني أنه اختار الطّريق الأصعب، نظراً لحساسيّة الموضوع من جهة، وللآراء النقديّة المتباينة والمتناقضة التي ستكون جاهزة لتفنيد مؤدّاه ودلالاته، كما أنه سيفتح الكثير من التابوهات المغلقة التي تواطأ المجتمع منذ زمن على إغلاقها من جهة أخرى، لكنّنا في المقابل، ورغم هذه الصّعوبات، لا يمكننا أن ننكر أهميّة هذا النّوع من الطّرح بما يحمله من استجابة للنّفس التوّاقة، ربّما، للمواجهة الجادّة مع الكثير من الأفكار التي نحملها دون تدبّر وتعقّل، ومحاولة تلمّس الصّواب فيها من عدمه، مع الإدراك بأهمية ما قد ينتجه ذلك من بناء فكريّ دينيّ مختلف مبنيّ على أسس منطقيّة سليمة تتوخّى التّعمق في المضمون والتبصّر بأبعاد الرسالة الحقيقية.

الرّواية.. بوصلة لحقيقة ما

حقيقة من الحقائق التي نبحث عنها تجليها لنا رواية “عندما تشيخ الذئاب”، للكاتب جمال ناجي، الذي اختار وعورة الطريق والمطبات التي قد تعترضه للوصول بنجاح إلى نهاية مهمته في تلمّس أبعاد الواقع والمعاناة الإنسانية وسط بيئة يسودها الفقر والنفاق والمكر والتشظي بين متناقضات الحياة الكثيرة، ليقدم للمتلقي رواية أدبية من العيار الثقيل بما تحمله من أسئلة الوجود والزمان والمكان وما تعيشه شخصياتها من صراع مع الذات ومع الآخر، وما تفضي إليه من تحوّلات، من خلال طرح فكري جريء ومختلف يحمل ما يحمله من القدرة على استجلاء الذات الإنسانية بما تختزنه من أفكار وتناقضات، وكشف حقائقها وتقلباتها، والخوض في محظوراتها..

الشّخصيات تخاطبك

تفاجئك شخوص الرواية، بطبائعها وبنية شخصياتها المركّبة والمعقّدة، والتي تختلف توجّهاتها بين المتدين المنافق والمتدين المتطرّف والمرأة المخادعة والسياسيّ الفاسد، لتمثّل المجتمع الغارق بالنفاق والفساد المقنع والمتخفّي تحت الستار، تخاطبك هذه الشخوص بنفسها وتروي لك أفكارها وهواجسها وحقيقتها من وجهة نظرها، وتحدثك عن مغامرتها وتفضي لك بأسرارها، وعلاقاتها، وتفاصيل حياتها، مروراً بمراحل مختلفة من الصراع الذي تعيشه وتحوّلها من النقاء والطيبة إلى الانحراف المتربّص داخلها والذي يتحيّن الفرصة للإيقاع بها، لتخلق بنفسك فيما بعد تصوّرك الحقيقي والواضح، ولتستشفّ من خلال الخيوط الدقيقة التي رسمها الكاتب بذكاء ما وراء السطور وخفايا النفوس لتتمكّن من رسم الصورة الواضحة من وجهة نظرك أنت هذه المرة، وليس من وجهة نظر الشخصية، المهم في الأمر هو أن الكاتب يخلق للقارئ مساحته الخاصة للتّفكير والتخيّل ويرسم أمامه المسارات المختلفة، العدل والظلم، الخطأ والصواب، الأمانة والخيانة، الحلال والحرام ليعي بنفسه معاني الفضيلة وليستتبع دلالات الصواب.

السّرد وتقنيّة تعدّد الأصوات

اعتمد ناجي على الحبكة الروائيّة المتصاعدة برويّة في وتيرتها، وذلك فرضته طبيعة السرد التي اعتمدت تقنية تعدد الأصوات في الرواية فعدّد خيوط السرد ومساراته من خلال رواية شخوصه، لكنه استطاع أن يشد القارئ ويجذبه بأسلوب مختلف حين تمكنت الشخصية من استدراجه لملعبها ومارست عليه التأثيرات المختلفة في محاولة للدفاع عما ترتكبه من خطايا، كما أتى النص الأدبي سهلاً وواضحاً بلغة واقعية تعمدت الاقتراب من الحياة اليومية للشخصيات وتقمّصها ببراعة..

الرّواية من منظور درامي

وبالقدر نفسه الذي نجحت فيه الرواية استطاعت الدراما التي جسدته، وبالعنوان ذاته، أن تحقق حضورها لدى المتلقي، وأن تستحوذ على كل من تابعها وأن تحصد نجاحاً نوعياً بما امتلكته من مقومات ضمنت لها النجاح، بدءاً من رواية ناجي التي حفّزت المخرج لتبنيها كعمل تلفزيوني، أو من خلال النص المحكم للكاتب حازم سليمان، أو الأداء اللافت والمتقن للفنانين، سلوم حداد بشخصية الجنزير الشيخ عبد الجليل، وهيا مرعشلي – سندس، وعابد فهد بدور جبران، والمخرج عامر الفهد الذي استطاع تجسيد الرواية برؤية بصريّة تليق بها وتمكّن من ترجمتها إلى الواقع بشخصيات من لحم ودم تقول مقولتها وتترك أثرها، ولعل الشخصية الأبرز في العمل شخصية الشيخ عبد الجليل – سلوم حداد الذي ارتدى لباس “التدين” من أجل تنفيذ غاياته ومآربه الخاصة تحت شعارات دينية.

بين الرّواية ودراماها

رغم الفوارق الطفيفة بين العملين، الأدبي والدرامي، والتي كانت في أغلبها مكانية، إلا النصّ الدرامي تعامل مع النص الروائي بأمانة واستطاع تجسيد مقولة الرواية، كما أن الموضوع كان كفيلاً أن يضمن نجاح العملين على حد سواء، وبما يحقق أمنية الروائي جمال ناجي قبل وفاته، بأن يتجسّد عمله الأدبي بصرياً لتصل رسالته لأوسع شريحة ممكنة.

أيّاً كان الجدل الذي تثيره هذه الأعمال، ومهما كانت الانتقادات التي قد تطالها، ومهما اختلفت وتخالفت التصورات والانطباعات التي تتركها، ستبقى أهميتها قائمة، وسيبقى أثرها الأهم ماثلاً بإخضاع المتلقي لمحاكمة عقلية هو بحاجة إليها، وإثارة الكثير من الأسئلة داخله، بل إنها ستدفعه للبحث بنفسه عن الإجابة، وصولاً إلى المعرفة المبينة على الحقيقة واليقين.

البعث ميديا || هديل فيزو