ثقافة وفن

الفنون والحرب

ما من محاسن للحروب، فهي تُخرج أسوأ ما في النفس البشرية، حيث تحل، يحل الدمار والخراب المادي والمعنوي، يوجع نصلها زرقة السماء، وتُنهك حتى الحديد، لكنها في الواقع من المناهل الخصبة جدا التي نهلت وما زالت تنهل منها الفنون بعمومها أهم نتاجاتها عبر التاريخ، ومنها وعنها دارت أجمل واروع القصص والروايات والأفلام والعروض المسرحية وحتى الأغاني، فالعديد من الثيم التي تقدمها من بطولات وحكايات أسطورية عن أحداث وقعت فيها لم يكن يتصور العقل البشري حدوثها، هي بالنسبة للفنان بيئة خصبة محرضة للخيال ولما يُبدعه حيال كل الألم الذي تُسببه، قبل أن تتركه كجرح نازف لا يندمل، ويُحسب لها في التاريخ، أن كل الفنون استقت من الحروب أهم ما قدمته باختلاف هذه الفنون وتنوعها.

الفن التشكيلي بأنواعه لم تكن لتغيب عنه أو ما كان له أيضا أن يتجاهل كل تلك الأحداث التي تقع في زمن الحرب، سواء كانت قاسية ودامية، أو ما يخرج منها ويحط في النفوس، من مشاعر إنسانية نظهر أيضا في زمنها وتترك ما تترك من عميق الأثر عقب الألم.

أحد أشهر المنحوتات التي عبرت بذكاء باهر عن الحرب ومن زاوية بديعة في هذا المقام، هو نصب إحياء ذكرى ضحايا الحرب العالمية الثانية الموجود في هنغاريا، النصب وعلى بساطته إلا أنه يُجسد فهما عميقا لحالة الحرب، ولأثرها القاسي الذي تخلفه، البساطة التي خرج بها هذا النصب، ليست إلا الشكل الذي يحمل المعنى الرمزي والعميق الذي أُريد له أن يصل لكل روح وتمسها، هذا عدا عن التفكير خارج الصندوق الذي كان هو أساس الاشتغال على الفكرة، بعيدا عن القوالب الجاهزة، والأفكار المكررة حدّ السأم، والتي صورت الكثير مما تم إنجازه عن الحروب، ولكن بمباشرة أحياناوواقعية مفرطة أحيانا أخرى، منها ما جاء رمزيا أيضا، لكن التكثيف الرمزي الذي حملته، لم يظفر بفهم الجميع له، ما جعله عرضة للعديد من التأويلات التي تتعارض فيما بينها.

النصب اختصر الحرب ببساطة شديدة ورمزية عالية الدلالة رغم قسوتها، والفكرة المبدعة قامت بجعل هذا النصب وكأنه صورة فوتوغرافية عتيقة، نُحتت على شكل “ريلييف”أو ما يُعرف بـ: “النحت البارز”في النصب تظهر عائلة وكأنها تقف أمام عدسة مصور لالتقاط صورة عائليةمع الأب المفقود،حيث يجلس الطفل على ساق الوالدولكن هناك في الفراغ الحاد الذي تركه بغيابه.

إنه الفراغ الذي يُمثل الأب بعد أن التهمته الحرب، وما يخلفه هذا الغياب القاسي والمفجع للعائلة عموما وللأطفال بشكل خاص،وكأن الفنان يقول في هذا النصب العالي الرمزية والواضح الدلالة: هذا ما فعلته الحرب،أخذت الأب ويتمت الأطفال ورملت النساء،الطفل بلا أب يُجلسه في حضنه كما يفعل الآباء، وها هي والأم بلا كتف تستند عليه، والبنت فقد سندها.

يا له من إبداع خارج من رحم القسوة، إبداع في الفكرة التي اختصرت أهوال الحروب في لمحة ذكية، بديعة، معبرة.

تمّام علي بركات