ثقافة وفن

الشيخ والبحر…ملحمة كبرياء

بلغة بسيطة مفعمة بالحيوية في آن معا، سرد الأديب العالمي “أرنست همنغواي” روايته “الشيخ والبحر” التي تحكي قصة صياد كوبي عجوز يعيش أسوأ لحظات حياته حيث يقرر أن يتحدى قدره وحظه السيئ ليتوغل بقاربه في مياه الخليج ليدخل معركة صيد شرسة مع قطيع من القرش.

كان “سانتياغو” العجوز مولعا بصيد الدلافين والسمك، بقي بقاربه في عرض البحر مدة اربعة وثمانين يوما دون أن يحظى بأي سمكة، وكان برفقته غلام صغير “مانولين” يحزن عليه حينما يراه يعود خالي الوفاض، ولكن أجبره والداه على ترك الشيخ بحجة أنه رجل منحوس ليلتحق بمركب آخر رغم أن الغلام كان يحب الشيخ فهو من علمه الصيد مذ كان في الخامسة من عمره.

كان كل شيء في “سانتياغو” عجوزا باستثناء عينيه التي بلون البحر، والصيادون يسخرون منه ورغم هذا لم ينجحوا في استثارة غضبه بل يبقى هادئا دون أن تهتز ثقته أو يعتريها الوهن، وكان هذا يزيده إيمانا وثقة ويقول دائما: “ربما لا أكون قويا بقدر ما أظن ولكن أعرف كثيرا من الحيل ولديّ عزيمة صادقة”.

وكان من يصطاد يحمل أسماكه إلى المسمكة حيث سيارة الثلج الكبيرة تقلّها إلى السوق في “هافانا”، ومن يصطاد قرشا يحملها إلى مصنع الأقراش في الضفة الأخرى من الخليج، حيث توضع على الآلات الرافعة وتزال أكبادها، وتقطّع زعانفها، وتنزع جلودها، ويقطّع لحمها قددا ليصار إلى تمليحه.

رغم كبر سنه وتعبه طوال اليوم إلا أنّ رفيق رحلة صيده زجاجة ماء وحيدة بلا زاد أبدا لأن الطعام على حدّ وصفه كان يزعجه منذ عهد طويل وربما تكون القهوة وحدها من تدخل جوفه طيلة النهار.

في أحد الأيام قرّر العجوز أن يتوغل في البحر ويشقّ طريقه وسط الظلام مجدفا بقاربه، ليتمكن بعد صراع يومين كاملين من اصطياد سمكة “السيف” بالغة الضخامة حتى خيّل إليه وكأنه يشد قاربا أكبر منه بكثير بقوله.. ها نحن نبحر في سهولة ويسر، أجل نبحر نحن نبحر أنا والسيف مثل أخوين.. وقد شدّ أحدهما إلى الآخر جنبا إلى جنب.

ولكن سعادته لم تطل بظهور سرب من القرش لتدور معركة طاحنة بينه وبين القطيع الذي بدأ بضربه على رؤوسها والقارب يتأرجح فوق ظهورها ضد أعداء لم يراها ولكن يسمع ويحسّ بها فقاتلها وهو يقول: سوف أقاتل القرش حتى الموت، فالحظ يأتي بصور متعددة، فمن ذا الذي يستطيع أن يتبيّنه؟، وعلى أي حال إذا ما جاءني الحظ في صورة ما فسوف أفعل كل ما يطلب إليّ فعله”، في نهاية المطاف لم يعد يعنيه سوى الوصول إلى اليابسة بخير تاركا البحر بما يحويه من أصدقاء وأعداء، بعد أن أكل القرش سمكته التي اصطادها ولم يبق منها سوى هيكلها العظمي، متهافتين عليها كتهافت الفقراء على بقايا المائدة لسدّ رمقهم.

وصل اليابسة منهكا خائر القوى، فسقط أرضا.. ولم يعاود محاولة النهوض إلا بعد أخذه قسطا وفيرا من الراحة.. ولم تكن مرحلة وصول الكوخ سهلة. فقواه المنهكة أجبرته على الوقوف والاستراحة مرات خمس. وعندما وصل إلى الكوخ، رمى بنفسه فوق السرير، رافعا البطانية حتى كتفيه وحول قدميه وظهره نائما على وجهه فوق الصحف القديمة ويداه منشورتان إلى أعلى وراحتاه تواجهان السقف.

وفي الخارج تجمع الصيادون والأهالي وبعض السياح يعتريهم العجب من ضخامة السمكة أو “ما تبقى منها”حيث قاسها أحدهم ليفاجأ بطولها البالغ 18 قدما من الرأس إلى الذيل حينها أدرك الجميع أن العجوز اصطاد سمكة لم يسبق لأحدهم صيدها من قبل.

ما إن ننهي قراءة الرواية التي يعتريك الشك للحظة وكأنك عشت غمار القصة مع العجوز وفي عرض الخليج وبكل تفاصيلها بلا ملل لما أبدعه الكاتب من سرد جميل وحبكة قوية وتتابع ملفت للأحداث، ناهيك عن العبرة المؤثرة التي سطّرها الصياد العجوز عبر تسلّحه بالأمل وقوة الإرادة لمواجهة مصاعب الحياة وبؤسها عبر مزيج الألم والسخرية الذين يثيرهما الحظ العاثر للعجوز.

واللافت احترام العجوز وتعاطفه مع سمكة السيف لرفضها الاستسلام لمحاولات صيدها واصفا إياها بالخصم النبيل والشريف ومناداته لها بـ “الأخ” قائلا: إنه بسبب نضالها، لا يستحق إنسان أن يأكل لحمها! ليشعر بالأسى عليها كونه لابد من قتلها كونه صياد وعليه إثبات جدارته أمام زملائه الذين ما فتئوا يسخرون منه ومن حظه العاثر، ليدون ملحمة في الانسانية والشجاعة والكبرياء ملخصها “كرامة الانسان تكمن في كفاحه وأنه لا يمكن هزيمته إلا حين يفقد الأمل”.

قصة الشيخ التي لامست عمق النفس البشرية عاكسة أهمية التسلح بالإرادة والثقة في مواجهة صعاب الحياة ناهيك عن تداخل الشعر بالفلسفة في أسلوب الكاتب كانت أبرز الأسباب لتفوز رواية “الشيخ والبحر”بجائزة نوبل عام 1954.

البعث ميديا|| ليندا تلي