مجتمع

رجعوا أولاد المدارس

كل السجالات والأحاديث والمناكفات التي شغلت الرأي العام المحلي بخصوص “كوفيد 19″ قبيل افتتاح المدارس، لم تشغل بال الطلاب الذين ينتظرون أن تفتتح أبوابها وصفوفها وباحاتها، بما لديهم من قليل صبر، خصوصا الطلاب في المرحلة الابتدائية.
أيضا كل ما يشغل بال الأهل ويؤرق لياليهم، بسبب التجهيزات اللازمة لأبنائهم الطلاب، والتي تكسر الظهر بما للكلمة من معنى في ظل الظروف الاقتصادية القاسية، والأجور الهزيلة، أيضا هذا الهم الثقيل لم يشغل بال أولئك الطلاب، وهاهم في اليوم الأول من بدء العام الدراسي، يسبقون العصافير في استيقاظهم المبكر، وما أن حانت لحظة الخروج من البيت إلى المدرسة، حتى تدفقت ضحكاتهم وتطايرت كالنسيم العليل مشاغباتهم البريئة، وهم يمضون إلى حيث يؤمنون بأنه المكان الذي لا يجب أن يتخلفوا عن الالتحاق به.
الطالبة نايا إسماعيل وهي في الصف الرابع، ربطت جديلتها الشقراء اللامعة، كل ما فيها ينضح بالحياة والأمل، تمضي ويدها بيد أخيها المستجد في عامه الدراسي الأول إلى المدرسة، ولا يشغل بالها إلا أن تُحافظ على سلامة أخيها المرح وهو مصاب بالذهول من نهر الأزرق والزهري المتدفق أمام ناظريه كالسكاكر الملونة، تحكي نايا بلهجتها الطفولية عن اليوم الموعود، دون أن تأتي لا من قريب ولا من بعيد على ما سبق وذكرنا من سجالات، تقول نايا وهي تُعرف عن نفسها بالرفيقة الطليعية: ” ما حسنت نام بالليل، استيقظت مرارا لأسأل والدي عن الساعة، وفي كل مرة يقول باقي ساعة”، نايا كانت على أُهبة الاستعداد ومنذ الساعة الخامسة فجرا، بانتظار أن يحين وقت هبوبها الرقيق إلى مدرستها ورفاقها، تقول: اشتقت لرفاقي ومعلمتي، هذه حقيبتي كبيرة تتسع لكل الكتب والدفاتر، لكني هذا العام مسؤولة عن أخي الصغير رامي، إنه في الصف الأول ولا يعرف طريق الذهاب إلى المدرسة والعودة منها، رامي لم يعجبه الكلام، فاعترض قائلا بلثغة لا زالت تلمع بين الحروف التي ينطقها: ” لا أنا بعرف روح وأرجع لحالي وما بضيع”، تابعت نايا ورامي طريقهما واختلطا بين رفاقهم في نهر الأمل هذا، الذي بقي من الأشياء القليلة التي تُفرح القلب وتعطي وعودا كريمة بأن القادم أجمل مهما كان الواقع قاسيا.
الطلاب ليسوا جميعهم بنفس الاستعداد للمدرسة كحال زنبقتنا نايا وأخيها، فالطالب وسام وهو من طلاب الصف السادس، لا حقيبة لديه ولا ثياب خاصة بالمدرسة، في يده “كيس” فيه بعض الدفاتر والأقلام، وكان خجولا أن يحكي بداية عما يعتريه وهو ماض إلى مرحلة انتقالية مهمة في مسيرته مع العلم والتحصيل العلمي: “نحن خمسة أخوة كلنا في المدرسة وأنا أكبرهم، والدي من أصحاب الدخل المحدود، ولم يستطع تأمين حاجياتنا المدرسية جميعها معا، دخلت والدتي في “جمعية” منذ أشهر على أنا تكون من نصيبها في هذا الشهر، لكن إحدى المشاركات دخل زوجها المشفى لعمل جراحي، فتنازلت والدتي عن دورها لها”، قال وسام وتابع بجرأة وشجاعة: “لا مانع لدي أن أذهب إلى المدرسة في هذه الثياب، ولا أن أحمل حقيبة بلاستيكية لكتبي ودفاتري، فلقد اختبرت هذا الشعور الجميل مرارا في اليوم الأول من المدرسة، لكني حزين على أخوتي الصغار، وعلى أبي”.
العديد من الأهل ترددوا في إرسال أبنائهم في اليوم الأول، ومنهم السيدة لمى، المصابة بالرعب من الفايروس، تقول: ” ما جرى خلال الأيام الماضية من أحاديث وخلافات في وجهات النظر من قبل المختصين، جعل عقلي مشوشا، نحن نعرف مدارسنا وتجهيزاتها، إن كانت الحمامات” والمغاسل ليست متوفرة بالشكل السليم في عموم المدارس الرسمية، وأعداد الطلاب بسبب الضغط الحاصل منذ سنوات على المدارس، من قبل أخوتنا الذين هجرتهم الحرب وخربت بيوتهم وحياتهم، أيضا الاختلاط الذي من الصعب أن تُقنع طفلا أن يمتنع عنه مع رفاقه لتحقيق مسافة الأمان المطلوبة، وغيرها من الأمور التي تبث الرعب بالقلوب خصوصا ونحن نسمع في كل يوم عن مصاب حلّ بعائلة ما، لفقدانها احد أحبتها بسبب المرض اللعين، شخصيا امتنعت في اليوم الأول عن إرسال أبني رغم حماسه وحزنه لعدم ذهابه، لكنني أم وسلامة أطفالي هي في المقام الأول عندي فماذا أفعل؟”.
السيد زهير لم يُرد بداية الحديث، كان ينفخ دخان سيجارته في الهواء، فتحمل زفراته بعضا مما يعتريه من هموم، إنه أب لأربعة أولاد كل منهم في صف ومرحلة دراسية مختلفة: “لدي ابن في الجامعة، وابنة في صف الحادي عشر، ابنة أيضا في الصف التاسع، وآخر العنقود في الصف الخامس، لم أستطع أن أؤمن لهم ربع ما يحتاجونه للذهاب إلى مدراسهم وجامعاتهم، ماذا أفعل؟ هل أسرق؟ أنا موظف وراتبي لا يتجاوز ال 50000 ألف وأعمل أيضا سائقا بعد الدوام، أي انني كل اليوم خارج البيت، ولا أرى ابنائي إلا صدفة، ومع ذلك ما أجنيه لا يكفي ثمن طعام وشراب حتى منتصف الشهر، فمن أين لي أن أُجهز لهم احتياجاتهم من لباس وقرطاسية وغيرها من مستلزمات المدرسة؟ ما معنى أن تكون أبا وأنت تعجز عن تحقيق أبسط مقومات الحياة لأولادك، خلينا بهمنا يا ابن الحلال”.
هذا هو الحال في بداية العام الدراسي، بين من هو مطمئن ولديه القدرة أن يُجهز لأبنائه ما يلزم للمدرسة، وبين الخائف بسبب الجائحة، وبين الفقراء وهم الشريحة الاوسع، الذين صار قدوم العام الدراسي يشكل عبئا ثقيلا جدا عليهم، إلا أن الأمل الخارج من تلك الحقائب الذكية الساعية إلى العلم، يجعل الهموم تختبئ قليلا، وتخجل أن تطل براسها وسط كل هذا الفرح الصاخب لطلاب كثر، منهم من ولدوا وكبروا ودخلوا المدارس في زمن الحرب وقسوتها، لكنه جرس العلم يرن، وعندما يرن فقلوبهم تطير مع رنينه حتى تلامس السماء.
تمّام علي بركات