الشريط الاخباريثقافة وفن

تُهنا في “شارع شيكاغو”.. خروج عن السياق ونقل فج للواقع

 

لم يتوقف الجدل المثار حول مسلسل “شارع شيكاغو” عند البوستر الترويجي له، بل امتد طوال حلقاته الواحدة والثلاثين، لما تضمنه من مشاهد وعبارات خارجة عن المألوف على شاشتنا، ورغم حبكته المتقنة التي شدت المتابعين في البداية وقصته “الظريفة” إلا أن طريقة الطرح كانت صادمة بالنسبة للجميع، ولم ينجح القائمون على العمل في إيصال أفكارهم من خلاله، ما سبب تنافراً كبيراً بالآراء حوله..

ففي جو من الإثارة والغموض، وقليل من الرومنسية، بنى المخرج محمد عبد العزيز، وهو كذلك المؤلف، حكاية مسلسله، ليبدأها بجريمة قتل ارتكزت عليها أحداث العمل، بفترة عُرفت بتقلباتها السياسية الكثيرة وتناقضاتها المجتمعية، وبعيداً عن النمطية التي أطر فيها بعض المخرجين دمشق بالحارات والعضوات وغيرها، رأينا وجها أخر من وجوهها، ولكنه كان “فجاً” في جوانب عدة، وقدم بعض مفردات المدنية، الغنية والمتنوعة، بشكل لم يكن مختلفاً عن ذلك الإطار التقليدي المعروف في أذهان الناس..

وبالتوازي نتنقل بين زمنين مختلفين – مترابطين، وكأن التاريخ يعيد نفسه بشخوص وظروف أخرى، لنكتشف من خلال الزمن الحالي ما حصل قبل 50 عام، وعلى الرغم من حرفية التصوير ودقته، ومهنية وبراعة الممثلين الذين أبدعوا كلٌ في دوره، إلا أننا كنا في بعض الأحيان أمام مشاهد لا علاقة لها بسير الأحداث، أو مبالغ في تقديمها بشكل كبير، ومن غير الواضح ما الجدوى من وجودها وما مغزى توظيفها في سياق العمل، إضافة للمشاهد “الجريئة” التي أُقحمت بشكل غير مقبول ضمن عمل درامي كان من المفترض أن يعرض خلال شهر رمضان المبارك ويُشاهد من قبل كل أفراد العائلة، من كبيرها إلى صغيرها، فهذه ميزة المسلسلات السورية التي اعتادت التوجه إلى كافة الشرائح وبإمكان الجميع حضورها والاستمتاع بها لما تحمله من أفكار وقيم، ولكن يبدو أن “شارع شيكاغو” ليس للجميع..

المخرج حاول إضفاء بعدٍ أخر على العمل بلجوئه للترميز في أماكن عديدة، وربما بالعمل كله، تاركاً المشاهد ليسرح مع خياله، غير أنه (أي المشاهد) لم يصل في النهاية إلى شيء محدد، فأسرار الشارع كَثُرَت مع توالي الحلقات، وأسرار ميرامار (سلاف فواخرجي) لوحدها كانت كافية للغرق بالتفكير من أجل البحث عن تفسيرات لها، والتي بقيت عالقة بدون معالجة واضحة حتى بعد انتهاء العمل، بل وزادت غموضاً مع عرض أخر مشهد في العمل..

صحيح أن الأعمال التي تعتمد على الغموض والتحليل والإثارة لاقت رواجاً كبيراً في العالم، وحتى في مجتمعنا، غير أنها كانت تقدم تفسيرات منطقية، وفقا للحالة والظروف التي تحيط بالحدث، حتى لو كان حلاً خيالياً، كون أغلبها يقوم بالأساس على معتقدات وخرافات وأساطير يبني الكثيرون أعمالهم عليها، ولكن كعمل يقدم نفسه على أنه توثيقٌ لحقبة زمنية مهمة في تاريخ سورية ومحاكاةٌ للواقع آنذاك فلابد أن يقدم تفسيراً منطقياً، على الأقل، لما يجري..

وبالحديث عن ذلك، فإن محمد عبد العزيز أراد أن يكون العمل وثيقة عن تلك المرحلة الغنية من تاريخ سورية، بحسب تصريحات سابقة له، ولكن.. أين كان ذلك؟؟.. فلم نلمس ما تطلع إليه المخرج إلا بمشاهد قليلة بالأبيض والأسود عرضت كطريقة للنقل بين الأحداث، غير أن توظيفها أيضاً لم يكن مناسباً، إذ لم يُفهم سبب استخدامها، باستثناء مشاهد زيارة تشي غيفارة إلى سورية التي رُبطت بطريقة ذكية مع أحداث المسلسل، وماعدا ذلك لم يكن هناك داعٍ لعرضه..

أمور كثيرة كانت غريبة في ذلك الشارع، من بوسترات لأفلام عُرضت بعد أحداثه بسنوات، أو عزف أغنيات حديثة، مقارنة بالزمن الأول للعمل، واستخدام آلات لم تكن قد انتشرت في سورية بذلك الوقت، كآلات التصوير التي يعود تاريخ صنعها لسنوات لاحقة، وظهور واجهات المحلات المغطاة بالعلم السوري، ليس فقط بالزمن الذي يتناول عام 2009، بل وبالزمن القديم أيضاً، وكأن لا أحد سينتبه إلى ذلك..

تطورات سريعة وقفزات غير مفهومة أحاطت بشخصيات العمل، أحداثٌ كثيرة كانت تجري هنا وهناك، في الحاضر والماضي، ليضيع المشاهد معها ويغرق في متاهتها، فبعض المشاهد كانت تسبق أحداثاً أخرى نراها لاحقاً، ولكن عنصر التشويق بقي عامل الجذب الوحيد الذي دفع للمتابعة حتى النهاية، فالكل يريد أن يعرف ماذا حصل وكيف ستتكشف الأمور، وينتظر ليعرف مصير كل شخصية، على الرغم من الملل الذي ضرب بعضاً من مفاصل العمل، لنجد أنفسنا في الختام أمام نهايات متعددة مفتوحة تركتنا مع خيالاتنا نفكر بما سيحدث لاحقاً، ولم تجبنا عن شيء..

الواقع غنيّ بتفاصيله التي يجب تسليط الضوء عليها، ولا يجب حصره بجانب واحد وصورة نمطية محددة، فلو تغير “الشارع” و”الحارة” في الأعمال المختلفة إلا أن الظروف تبقى كما هي، فأين نحن الآن من أعمال عكست واقعنا بكل تفاصيله وجمعت حولها أفراد العائلة، لتقدم لهم الأب والأم والأخ والأخت والزوج والزوجة والجيران والأهل، الجيد والسيئ، الفاسد والنزيه، القبضاي والمشكلجي، العامل والمكافح ومن يملك كل شي، دون أن تقترب مما هو “غير محبب”، وبجرأة لم تتطرق إلى الأفعال غير الأخلاقية لتوصل فكرتها.

 

رغد خضور