ثقافة وفن

“موسيقا” اليوم.. أين يكمن الجمال؟!

لا يعلم أحدٌ إلى أيّ نوع من الفن تنتمي “أغنية” لا كلمة شعريّة فيها، ولا موسيقا ترقى لأن تصبح لحناً، ولا شبيه صوت يستحق أن تنصت له الأذن، ولا ندري أين تكمن القيمة الجماليّة التي يتركها “فنٌّ” كهذا، والأدهى أنه يلاقي رواجاً وشعبية غريبة بين الناس!!

إلى الآن ما زالت موسيقا الزمن الجميل تملأ الماضي والحاضر، رغم مرور عقود عليها، إلا أنها ما زالت حية بما منح لها من أسباب الخلود والبقاء، وأمام من كرّس ووهب حياته لها، وأعطاها من نفسه وروحه، وبثّ بين ثناياها من الصدق وقوة التعبير ما جعلها تعبر عن شعور الإنسان في كل زمان، وأبدع بنسج مقاماتها وألوانها الغنائية التي منحتها الحياة الأبدية..

ربما من المجدي الاعتراف أنّ لكل زمن جيله المختلف، ولكل عصر خصوصيته وتجربته التي تأخذ أبعادها من صناعها ومبدعيها والمؤثرين والمتأثرين بها، وحكماً لابد أن تختلف التجارب، لكن أمانة التجربة أيضاً تفرض أن تكون امتداداً حقيقياً ومثرياً لما قبلها مع ما يتطلبه الراهن من الحداثة والملاءمة، دون أن يتأثر الفحوى والمضمون والنوع، لكن، ما الحال أمام هذا التراجع الموسيقي الذي يفتقر لأدنى المعايير الموسيقية، والذي لا يمت بصلة للتراث الموسيقي والغنائي، ابتداء من اللغة الشعرية والمقام الموسيقيّ وصولاً لطريقة الغناء، لتتحول أغنية اليوم في أغلبها إلى أغنية مضطربة وهجينة عاجزة عن الارتقاء إلى قالب غنائي واضح، أو شبيه به حتى، بعد أن تحررت من المقامات الغنائية التي تناقص عددها حتى أصبحت المقامات المستخدمة في وقتنا الحاضر لا يتجاوز عددها ستة أو سبعة مقامات، بعد أن كان عددها يتجاوز 300 مقام..

فقدت الموسيقا في عصرنا ذلك السحر الذي منحها هويتها، لم تعد قادرة على جذب من يسمعها، بل باتت مدعاة للنفور في ظل تهافت المتطفلين عليها دون امتلاكهم أدنى المعايير التي تتطلبها، ليسود الهابط والتجاري، وليصبح المعيار الأقوى هو الشكل الخارجي فقط، بعيداً عن عالم التأليف الموسيقي وركائز الموهبة الموسيقية الحقيقية.

في سورية هناك كنوز من الجمال الموسيقي تنتظر من يبحث عنها، بلادنا التي اكتشف فيها أول لوح كُتب عليه بالنقش المسماري كلمات أول مقطوعة موسيقية في العالم، وفيها أنشئ المسرح الغنائي لأبي خليل القباني، وبها كرُّس لونها الغنائي الحلبي والقدود الذي يتميز بمدرسته الخاصة في الغناء والذي يدرّس عالمياً، ما يفرض نهجاً مختلفاً يكون امتداداً حقيقياً ونوعياً يليق بهذه المدارس الموسيقية المشرّفة.

من ناحية أخرى، ورغم الأهمية التي تتمتع بها، لم تعد الأغنية الوطنية تحصد حقها من الرعاية والاهتمام، إن كان من ناحية الشعر أو التأليف الموسيقي، ولم تعد تتبوأ مكانتها اللازمة على الرغم من كونها الحاضن الصادق لمشاعر حب الوطن، الذي يعين على تجاوز الآلام بما يتركه من جمال روحي، فلهذا النوع من الغناء قدرته على التأثير في المتلقي وتعزيز الانتماء، ورفع حالة الوعي بالمرحلة والتأهب لها وفق المبادى والأخلاقيات والثوابت الوطنية.

إن كان للجمال مقياس، فهو بالأثر الذي يتركه، وبالحالة الشعورية الجميلة التي تتولد في النفس، وهذا سر خلود الجمال الحقيقي، وإن فُرّغ الجمال من محتواه الجميل والصادق فإنه سيُرمى في دهاليز النسيان، وهنا تتبدى أهمية الاهتمام بالجمال والبحث عنه بأمانة بعيداً عن الاستسهال والاستخفاف، فالأمر متعلق بكمّ هائل من المواهب الحقيقية المغيّبة التي تنتظر من يحتضنها ويمهد لها الدروب لتستطيع أن تمضي بخطوات جادة وثابتة، ورغم وجود العديد من التجارب التي تحاول باجتهادها الذاتي أن تنتصر لطموحها، إلا أنها تبقى تجارب فردية لا تستطيع أن تؤسس موسيقياً بمفردها لحقبة زمنية كاملة..

هديل فيزو