ثقافة وفن

موطن الإبداع في الفلسفة العربية

هناك من يدّعي أن مشكلة الفلسفة العربية، تتمثل في اللغة التي تفكّر بها، على اعتبار أن الفلسفة لا تتحدث إلا بالإغريقية أو اللغات (الهندو-أوروبية)، أما اللغات السامية والشرقية فهي لغات بعيدة عن روح الفلسفة، بل ومتنافية معها، وقد زعم بعضهم أن اللغة العربية لغة غير ملائمة للفلسفة لأنها لغة حسية مباشرة، غير قابلة للتجريد ولتوليد المعاني، فتجريداتها مبسطة وسطحية بينما تتطلب اللغة الفلسفية قسطاً كبيراً من التجريد والإيحاء.

وقد أبانت الدراسات اللسانية الحديثة عن مسألة بديهية وهي أن كل اللغات، من حيث هي منظومات رمزية متساوية من حيث قيمتها التعبيرية والدلالية والإشارية، فكل لغة هي مخزون رمزي يمكن استعماله بالقدر نفسه من التجريد أو التشخيص، ولا فضل للغة على أخرى في هذا الباب، كما ادّعى آخرون أن الذهنية السامية ذهنية جزئية، تفصيلية وليست ذهنية تركيبية، فغياب الفلسفة المزعوم في المجال العربي والإسلامي يعود إلى أن العرب لا يمتلكون هذه القدرة التركيبية التي تتميز بها الذهنية الأوروبية، وقد شهد المجال العربي الإسلامي في فترة تفوقه الحضاري ازدهار الفلسفة ونموها، حيث ظهرت ترجمات لأمّات الكتب الفلسفية اليونانية، وازدهر التأليف في الفلسفة بمختلف فروعها الأخلاقية والميتافيزيقية والاجتماعية، وأصبح للعرب (متن فلسفي عربي) يحق للأمة العربية أن تفاخر به اليوم، ورغم أشكال الاضطهاد الذي تعرّض له الفلاسفة وأنواع المقاومة للحديث الفلسفي من طرف بنية فقهية نصية، فقد صمد التفكير الفلسفي العربي وأعطى أسماء عظيمة كـ(الفارابي، ابن سينا، ابن رشد، وابن حزم…. وغيرهم) كما واكبت الفلسفة فترة الازدهار الحضاري العربي الإسلامي، فقد انقرضت بالخطابة، حيث ساد فكر الاجترار والتهميش على المتون و«لوك» الحقائق الجاهزة المكرورة، وفي هذه الفترة ارتفعت أصوات المنادين بتحريم الاشتغال بالفلسفة، كما تعبّر عن ذلك فتوى (ابن الصلاح) الشهيرة في هذا الباب.

لقد انبرى بعض الفلاسفة العرب إلى الدعوة للفلسفة الوضعية باعتبارها أيضاً فلسفة تحديثية مناهضة للميتافيزيقيا، وهي وحدها التي تستطيع أن تنقل العرب من حضارة الكلام إلى حضارة الفعل، فالروح الوضعية هي روح العلم والبحث العلمي والفحص التجريبي للوقائع وقياس الأحوال، وفي الوقت نفسه انكبّ آخرون على ترجمة الوجودية أو الكتابة عنها على أساس أن الوجودية هي فلسفة الحرية وفلسفة المسؤولية الفردية وفلسفة الاختيار الإرادي الحر، لكن إذا لم تكن هذه الفلسفات قد استطاعت الانغراس في الواقع العربي فإنها على الأقل حملت معها بعض ملامح الحداثة الفكرية إلى الفكر العربي وأخرجته من عزلته واجتراره لذاته.

لكن الفلسفة العربية المعاصرة وعت تماماً ضرورة محاورة الواقع العربي والفكر العربي للمساهمة في تطوير البنية الفكرية العربية وجعلها أكثر قدرة على فهم العصر والتحاور معه، وهنا ظهرت في هذا الإطار مدارس واتجاهات تخضع التراث الفكري والفلسفي العربي للمناهج الحديثة، والإسهام في بلورة مشروع حضاري عربي جديد للفلسفة.

 

د. رحيم هادي الشمخي