ثقافة وفن

تجاعيد الجّمال

 

كعادتِها، تتقنُ الحياةُ تركَ ندباتِها فينا بصمت، فتتبدّى بمرّها وحلوها لوحةً تتعانقُ فيها الآلام والمسرّات لتخلقَ جمالاً فريداً، أجملُ ما فيه أنّه يجسّد الحقيقة بذاتها..

  منذ اللّحظات الأولى لبدء التّكوين، يخطّ الزمنُ علاماته في الوجوه بقدرة مبدع يُجيد خلق لوحته مدركاً تمام الإدراك التّصوّر النّهائي لها، يختار ألوانه بعناية فائقة، ويستوحي تجلّياته بدقّة لا يفهمها إلاّ من يصنعها، ليخطّ ذكريات لا تمحى ويترك بصماته بريشة خالدة، خطوط تحتوي بعضها بعضاً لترسم حكاية حياة تتشابك فيها الأضداد، وتتماهى خلالها الجماليات والقيم مع الغرابة والغربة، عبر صورة لا تعلن تكوينها إلا مع اكتمال الحياة، هي وجوهٌ تجسّد لوحة عمر، كلّ خط فيها هو حكايةٌ بلا نهاية، وكلّ رسم داخلها يتجلّى مختزلاً مرحلةً كاملة..

مع كل خطّ في الوجه هناك وجعٌ دفين يدأب صاحبه على إخفائه متقناً كتم الأسرار وضمّ الأمل بعينين حانيتين لا تمتلكان من اللّون سوى رسمه، ولا من القوة إلا اسمها، وجعٌ بلغ مداه في خضمّ معارك الحياة ليحفر عميقاً في الروح ويتبدّى بأشكاله في لوحة الوجه، فيلفظ القلب ما فيه من تعب ليتجلى خطوطاً عميقة تتداخل متحدّة لتكوّن قوة تعلن وجودها رغم كل العناء، في تفاصيل اللوحة ذاتها تثبت خطوط أخرى قدرتها على رسم الفرح أيضاً، فتبعثر ألوان الحزن جانباً وتبدأ باختيار أبعادها لتخلق بهجة ترسم مسارها وتخلق عوالمها، لكنها تأبى إلا أن تخطّها بخطوط تبشّر بالصّيف والضّوء والسّلام.

خطوط تتراقص على محيّانا وتفعل فعلها بوجوهنا، تكتمل بنا ونكتمل بها، ومهما حاولنا إخفاءها تتبدّى لتظهر من جديد وبقوة أكبر، نحاول الانعتاق من الزمن والعبث معه متوسلين عودته إلى الوراء ومحو علاماته، فتنتفض لتصرّ على وجودها وتدافع عنه حتى اللحظة الأخيرة، نثابر التحايل عليها، تحت ستار الوجوه الباحثة، رغماً عنها، عن جمال تدعيه ولا تمتلكه ولا تعلم عنه شيئاً سوى أنها تبتغيه، لكنها خطوط عنيدة، تأبى إلا أن تعلن سلطتها وسطوتها لتكون هي الجمال بذاته، جمال من نوع مختلف يعلن تصالحه مع مرآة الذات وتجاعيد الحياة، فيعيد رسم ملامحه ليصوغ على صفحات الوجوه يقيناً نمضي عمرنا، دون أن ندري، بالبحث عنه،ليجسّد ببهائه الحقيقة الكاملة..

هديل فيزو