اخترنا لك

متداول.. فاضل الربيعي يتحدث عن شحاذ السليمانية الأعمى

كان الزعيمُ الكرديّ العراقيّ -رحمه الله-، الراحل مصطفى البارزاني(والد مسعود) يُرددّ على مسامعِ زوّارهِ الطُّرفةَ الآتية: “نحنُ الأكرادُ مثل الشحّاذ الأعمى في بابِ جامع السليمانيّة، لا يعرفُ من الذي يضعُ النقودَ في يده، وقد لا يهمّه ذلك”. قوى إقليميّةٌ ودوليّةٌ كثيرة، ومنذ الستينيّاتِ من القرنِ الماضي، وضعت كثيراً من النقودِ في يدِ شحّاذ السليمانيّة الأعمى؛ وبالطبعِ بدعاوى (إنسانيّة) جيّاشة تزعمُ مساعدةَ الشعبِ الكرديّ على نيلِ حقوقه.

في وقتٍ ما، طوّرت هذه القوى من مشاعرِها المُتأجّجة حيالَ الشّعبِ الكرديّ، وانتقلت من دفعِ النقودِ إلى التسليح، وهكذا، أصبحَ الشحّاذُ الأعمى مُسلّحاً يقاتلُ أعداءَ لا يراهم، وصارَ يُطلقُ النارَ دونَ بصيرةٍ، ولذا، تمزّقت (روح المُواطَنة) وتهتّكت أكثر فأكثر، وباتَ الأكرادُ يشعرونَ أنّهم (يختنقونَ داخلَ الدولةِ العراقيّة)، وأنَّ التنفّسَ بحرّيّةٍ لن يكونَ مُمكناً إلّا بالخروجِ إلى الهواءِ الطلق، هذا الهواءُ الذي كانَ وهماً، لأنَّ الجغرافية السياسيّة كانت بالمرصادِ ولمْ تكن تسمحُ (لشعبٍ)، ينتابهُ فجأةً شعورٌ بالاختناقِ بأنْ يتنفّسَ ويتمطّى ويتمدّد في جغرافية مُعقّدة تمتدُّ من العراقِ فسورية وإيران وتركيا وروسيا، ومع الوقتِ وتفاقمِ الشّعورِ باليأسِ القوميّ من إمكانيّةِ تحويلِ الوهمِ إلى حقيقةٍ، تآكلت روحُ المُواطَنةِ والشّراكةِ التاريخيّة التي كانت تجمعُ الأكرادَ ببقيّةِ مكوّناتِ الشّعبِ في العراق (ثمّ تالياً في سورية). فأينَ تكمنُ مشكلةُ الأكرادِ في العراقِ وسوريّةَ اليوم؟ سوفَ أعرض لجوهرِ المُشكِلةِ الحقيقيّة التي تَغاضى عنها الجميعُ جهلاً أو عن قصد. إنّها الجزءُ المسكوتُ عنه من قصّةِ الأكراد.

إنَّ جوهرَ المُشكِلةِ يتّصلُ بشكلٍ مباشر بوجودِ فَهمٍ مغلوطٍ (لحقِّ تقريرِ المصير)، هيمنَ على الفكرِ السياسيّ في الحركةِ القوميّةِ الكرديّة العراقيّة/ السّوريّة. في مطلعِ ستينيّات القرنِ الماضي، وضعَ الغربُ في يدِ الشحّاذِ الأعمى الواقفِ ببابِ جامعِ السليمانيّة، ما هو أكثر قوّةً وتأثيراً مِنَ (النقودِ) ومِنَ (الأسلحةِ) على حدٍّ سواء. لقد وضعوا في يدِهِ (وثيقة حقّ تقريرِ المصيرِ) زاعمينَ أنّه ميثاقٌ أُمميٌّ ينصُّ على حقّه (في الانفصالِ) عن شُركائِهِ التاريخيّين، وهكذا، بدأت الحركةُ القوميّةُ الكرديّةُ بعمى بصيرةٍ لا مثيلَ له، باللّهاثِ خلفَ سرابٍ لا أصلَ له، لأنَّ مثل هذا الميثاق لا وجودَ له، ولا وجودَ لأيّ نصٍّ قانونيٍّ/ دوليٍّ (أُمميّ ومُقرّ من الأُممِ المتّحدة) يُعطي الحقَّ لأيّة قوميّةٍ بالانفصال.

بكلامٍ آخر، وضعَ الغربُ في يدِ الكرديّ (وثيقةً وهميّةً) لخِداعهِ والتلاعب به، واستخدامهُ كورقةٍ في محطاتٍ ومشاريعَ لا علاقة لها بمصالحِهِ، ومؤخراً فقط، بلغَ التلاعبُ بالأكرادِ ذروتهُ، وأصبحَ الوهمُ في عيونِهم قابلاً لأنْ يتبدّى كحلمٍ عظيمٍ قابلٍ للتحقّق، حينَ عاندَ البارزاني الابن العالمَ كلّهُ ومضى –مثل الشحّاذِ الأعمى- في طريقٍ فرضَ الاستفتاء على (حقِّ تقريرِ المصير)، وماذا كانت النتيجة؟ فجأةً تخلّى الأمريكيّونَ والغرب الأوروبيّ عن الأكرادِ ولمْ يصدحوا بنشيدِ (حقّ تقريرِ المصير). لقد تركوهم في مواجهةِ مصيرِهم وحدهم. بكلّ يقين، يستحقُّ الشعبُ الكرديّ العظيم كلّ الاحترامِ لتضحياتِهِ وصبرِهِ وصمودِهِ، كما يستحقّ كلّ التعاطفِ والتضامنِ والدفاعِ عن حقوقِه. لكن ثمّةَ إشكاليّةٌ تاريخيّةٌ في حياةِ هذا الشعب خلقها (الغربُ) وتسبّبَ بها، ولمْ تتمكّن قياداتهُ حتّى اللّحظةِ من مُعالجتِها بشكلٍ صحيحٍ وعَقلانيّ، وربّما كانَ ذلك مصدر النّزاعِ الذيَ وجدَ نفسهُ في خضمّه.

تتمثّلُ هذه الإشكاليّةُ في مفهومِ (حقِّ تقريرِ المصير) الذي روّجت لهُ بعض قوى الحركةِ القوميّة الكرديّة في العراق (ثمَّ في سورية)، مُتوهّمةً بأنّهُ حقٌّ قانونيٌّ مُقدّسٌ في الانفصال. لقد تسببّ الفهمُ المُريعُ والسّقيمُ لهذا الحقَّ المَزعومِ في انزلاقِ الأكرادِ نحو الصِّدامِ مع الشّركاء في الوطن، وبالطبع، لمْ يكفّ دافعو النقودِ لشحّاذِ السليمانيّة الأعمى ولا للحظةٍ واحدةٍ، عن الهمسِ في أُذنه، بأنّهُ يستحقُّ أكثر بكثيرٍ من البقعةِ التي يقفُ فوقها، وأنّهُ يستطيعُ أنْ يحصلَ على مساحةٍ أوسع، أي أبعدَ من (مساحةِ الجامع) الذي يقفُ عندَ أبوابِه، فقط لو أنّهُ قرّرَ أنْ يفعلَ ذلك. كانوا يبيعونَ لهُ الوهمَ بأنَّ مطلبَ (حقّ تقريرِ المصير) حقٌّ قانونيٌّ مقدّسٌ أقرّتهُ الشّرعيّة الدوليّة، وأنّهُ يضمنُ له أنْ ينفردَ لوحدِهِ بالمكانِ الذي حصلَ عليه .

ظهرَ مبدأُ حقّ الشّعوبِ في تقريرِ مصيرِها في القرنِ التاسع عشر، وفعليّاً في مطلعِ القرنِ العشرين، حين نشرَ الرئيسُ الأمريكيّ وودر ويلسون ما يُعرفُ بـ(إعلانِ وودر ويلسون) مع نهايةِ الحربِ العالميّةِ الأُولى، وثيقة تتضمّن (نقاشاتِ القرنِ التاسِع عشر حولَ حقِّ الأُممِ في تقريرِ مصيرِها)، وكان -هذا الإعلانُ- يهدفُ كما قِيل إلى (معالجةِ أوضاعِ الشّعوبِ والأُممِ التي كانت خاضعةً لإمبراطوريّةِ المجر والنمسا والإمبراطوريّة العثمانيّة)؛ أي أنَّ الوثيقةَ في الأصلِ كانت مُوجّهةً لشعوبٍ صغيرةٍ تحتَ الاستعمار، وليست مُصمّمةً لمعالجةِ أوضاعِ (القوميّات) التي تُعاني من (النقصِ في حقوقِها الثقافيّة). وهكذا، شكّلت (مبادئ ويلسون) الأساسَ لتأسيسِ عصبةِ الأُمم، ولتأكيدِ الدور الأمريكيّ على مسرحِ السياسيةِ العالميّة. من وُجهةِ نظرِ الفقيهِ القانونيّ الدوليّ الشهير أيان براونلي، فقد كانَ هذا الحقّ (حتّى وقتٍ قريبٍ دونَ أيّ محتوى قانونيّ)؛ لأنّهُ مجرّد نظريةٍ سياسيّةٍ وأخلاقيّةٍ لا تعريف دقيق للمصطلحِ الذي تستندُ إليه، وقلّما يجدُ المرءُ قبل عام 1945 مراجعَ قانونيّة يمكنُ أنْ تُساهِمَ في (تعريفِ هذا الحقّ).
المُثيرُ للانتباهِ، أنَّ محكمةَ العدلِ الدوليّةِ منذُ هذا الوقت، ارتأت أنَّ نصَّ المادّةِ 2 من “اتّفاقيّةِ الوصايا” من ميثاقِ الأُممِ المتّحدة، يضعُ التزاماً على الدولِ ببذلِ أقصى الجهودِ لتحسينِ ظروفِ العيشِ الفعليّ والأخلاقيّ والرُّقيّ الاجتماعيِ لسكّانِ أقاليمَ تقطنها (أقلّيات) ولا يُؤيّد (حقّها في الانفصال)؟

في هذا الميثاق (أي عام 1945) جاءَ ذكر مبدأ حقّ تقريرِ المصير مرّتين، الأُولى: في الفقرةِ الثانية من المادة / 1 / وهي الخاصّةُ بأهدافِ الأُمم المتّحدة، والتي تجعلُ تطويرَ العلاقاتِ الدوليّةِ بين الأُمم على أساسِ مبدأ المُساواةِ في الحقوقِ وتقريرِ المصير ونصّها: (إنماءُ العلاقاتِ الودّيّةِ بين الأُممِ على أساسِ احترامِ المبدأِ الذي يقضي بالمساواةِ في الحقوقِ بين الشّعوبِ وبأنْ يكونَ لكلٍّ منها تقريرُ مصيرها، وكذلك اتّخاذ التدابيرِ اللّازمةِ لتعزيزِ السلمِ العالميّ). والثانية: نصّت على (تهيئةِ دواعي الاستقرار والرّفاهِ الضروريَّين لقيامِ علاقاتٍ سلميةٍ وودّيّة بين الأُممِ مُؤسّسةً على احترامِ المبدأِ الذي يقضي بالمساواةِ في الحقوقِ بين الشّعوبِ، وبأنْ يكونَ لكلٍّ منها تقرير مصيرِها).

وبموجبِ هذه المبادئ الأُمميّة؛ فإنَّ (حقَّ تقريرِ المصير) يعني:
تحقيقُ مستوى أعلى للمعيشةِ لكلِّ فردٍ، والنهوضُ بعوامل التطوّرِ والتقدّمِ الاقتصاديّ والاجتماعيّ.
تيسيرُ الحلولِ للمشاكلِ الدوليّةِ الاقتصاديّةِ والاجتماعيّةِ والصحّيّةِ وما يتّصلُ بها.
هذا كلّ ما في الأمر؛ أي لا وجود لحقِّ انفصالِ القوميّات، إلّا شرط وقوعِها تحتَ الاستعمارِ المُباشر.

كان في روسيا نِقاشٌ نظريٌّ ساخنٌ قد بدأَ عام 1893؛ أي قبلَ أنْ ينشرَ وودر ويلسون إعلانهُ. فجّر الشيوعيّونَ الروس نقاشاً عميقاً حولَ (معنى حقّ تقريرِ المصير)، فأدّى النقاشُ إلى انقسامٍ واسعٍ في الحركةِ الشيوعيّةِ داخلَ وخارجَ أُوروبا وروسيا. في هذا الوقتِ، أسّست روزا لوكسمبورغ، وهي مُنظّرةٌ ومُناضِلةٌ شيوعيّةٌ معروفة، وبالتعاونِ مع اشتراكيّي بولونيا، حزباً مُناهِضاً لـ(حقِّ تقريرِ المصير) يرفضُ وبشكلٍ قاطعٍ استقلالَ بولونيا التي كانت مُقسّمةً بين روسيا وألمانيا والنمسا، وكان حزبُ روزا يُؤكّدُ على وحدةِ المصير، والروابطِ الأُمميّة المتينة التي تجمعُ بين البروليتاريا الروسيّة والبولونيّة، وكانت أفكارُ لوكسمبورغ تُؤكّدُ على الفكرةِ الآتية: إنَّ حقَّ تقرير المصيرِ هو حقٌّ ميتافيزيقيّ (خياليٌّ) أجوف، وإنّهُ من وُجهةِ نظرِها “كالحقِّ المزعومِ بالعملِ في القرنِ التاسع عشر”، أو الحقّ السّخيفِ القائل: “لكلِّ إنسانٍ أنْ يأكلَ في صحونٍ ذهبيّة “؛ بينما لا يجدُ الناسُ ما يأكلون، وأنَّ استقلالَ الأُممِ الصغيرةِ بشكلٍ عام، وبولونيا بشكلٍ خاصّ، هو -من وُجهةِ نظرٍ اقتصاديّة- يوتوبيا مُدانة بقوانين التاريخ.

يتّضحُّ من هذا الاستعراضِ السّريعِ، أنَّ حقّ تقرير المصير كانَ مُصمّماً في الأصلِ لمعالجةِ أوضاعِ القوميّاتِ تحتَ الاستعمار، وليس (حقوق الأقلّيات) داخلَ الدولِ التي تُقاتلُ الاستعمارَ القديم والجديد.
وبكلِّ تأكيد، فلم يحدثُ في التاريخِ أنْ قامَ الشّعبُ العراقيّ أو السّوريّ باحتلالِ (أرض الأكراد) أو أنَّ (أمّةَ العربِ) قامت باستعبادِ (أمّة الكردِ)؛ ليُصبحَ النقاش اليوم حولَ حقّ تقريرِ مصيرِ الأكرادِ عن العربِ، نجمَ عن هذا الفَهم الخاطئ سلسلةً من الإشكاليّاتِ غير القابلةِ للحلّ، وكان العراقيّون والسّوريّونَ أصحابَ إمبراطوريّةٍ عظيمةٍ منذ 750 قبلَ الميلادِ، هي الإمبراطوريّة الآسورية؛ أي السوريّة، وقد ضمّت جماعاتٍ وأُمماً وقبائلَ وشعوباً أُخرى، كما هو الحالُ مع كلّ إمبراطوريّةٍ تستوعبُ أُمماً وجماعاتٍ أُخرى في أحشائِها، ومن هذه الشعوب التي عاشت مع العراقيّين والسوريّين (الآشوريّين) القدماء وعبرَ التاريخ، كانَ هناكَ شريكٌ عظيمٌ هو الشّعبُ الكرديّ الشّقيق، ولمْ يكن شعباً مُستَعبَداً في أيِّ وقت، لقد (نقصت) حقوقه الثقافيّة. نعم، لكنّه كان شعباً حرّاً وشريكاً، وقدَ وصل الكرديّ العراقيّ والسّوريّ اليوم بسبِ خِداعِ الغربِ/ الأمريكيّ إلى المأزق، ووجدَ نفسهُ في المتاهةِ حينَ قرّرَ إجراءَ استفتاءٍ في كردستان العراق على (حقِّ تقريرِ المصير)، وحينَ قرَّرَ جزءٌ منه أنْ يُقاتِلَ الدولة السّوريّة بالتحالفِ مع الأمريكيّين، وإنَّ مأساة الاستفتاءِ الفاشلِ الذي حذّرَ منه كثيرٌ من السّاسةِ الأكراد، هو، بالضبط، مأساةُ الفهمِ المغلوطِ لهذا المبدأ، وإنَّ مبدأَ (حقّ تقريرِ المصير) هو نظريّةٌ مُصمّمةٌ في الأصلِ لمنحِ حقّ الاستقلالِ للأُممِ والشّعوبِ التي تقعُ تحتَ الاستعمارِ المُباشر؛ أي حين تصبحُ أمّةٌ ما، مُستعبَدة كليّاً بشكلٍ شامل من أمّةٍ أُخرى، وهو في الآنِ ذاتِه هو نظريّةٌ تجرّديّةٌ -أي دونَ أيِّ إطارٍ قانونيٍّ دقيق- مُخصّصةٌ لمعالجةِ مُشكلةِ (الأُممِ والشّعوبِ ناقصة الحقوق).

الأكرادُ هُم شركاءُ في الوطنِ، ويواجهونَ (مُشكلةَ نقصِ الحقوق)، وليسوا عبيداً عندَ أُمّةِ العربِ ليحقَّ لهم (تقرير المصير)؛ لأنَّ مصيرَهم واحدٌ مع شركائِهم، أي أنّهُ مبدأٌ (لمساعدةِ القوميّاتِ التي تقعُ ضحيّة الاستعمار) وليس حقّ (كلّ جماعةِ قوميّة) في الاستقلال، وإنّهُ مشروطٌ بتوصيفٍ قانونيٍّ مُحدّدٍ لحالةٍ تاريخيّةٍ تكونُ فيها أمّةٌ ما مُستعبَدةٌ من أمّةٍ أُخرى، وليس أثنيّةً أو جماعةً ناقصةَ الحقوقِ، وتعيشُ في شَراكةٍ مع جماعاتٍ أُخرى. فعليّاً ظهر مبدأُ (حقّ تقريرِ المصير) سنوات 1917- 1919، وفي البدايةِ نادت به روسيا بعدَ إسقاطِ القيصريّةِ مع ثورةِ أكتوبر، عندما كشفَ لينين، زعيمُ الثورةِ عن معاهدةِ سايكس بيكو السرّيّةِ لتقاسمِ النفوذِ بين الدولِ الاستعماريّة -على حسابِ شعوبِ وأُممِ الشّرقِ المسلم-، وسرعانَ ما تلقّفهُ الأمريكيّونَ وراحوا يوزّعونهُ على شحّاذينَ عميان في أكثر من مكان.
تلقّفَ شيعةُ العراقِ –حينَ قاموا بثورةِ العشرين 1920 ضدّ البريطانيّينَ المحتلّين- هذا الجانبُ منَ (الحقّ)، ولذا كتبَ المرجعُ الشيعيُّ الأعلى الشّيرازيّ رسالةً إلى لينين زعيم البلاشفة الروس، وإلى الرئيس الأمريكيّ وودر ويلسون، طالبهما صراحةً بتطبيقِ (حقّ تقريرِ المصير)؛ لأنَّ (أمّةَ العراقِ أصبحت تحتَ استعمارِ أمّة الإنجليز).
هذا هو جوهرُ الحقِّ النظريّ القديم.
تجاهلَ الأمريكيّونَ رسالةَ زعيم شيعةِ العراق، والروس لمْ يكن لهم حولٌ ولا قوّة، ولسوءِ الحظِّ، وصل مُحسن أمريكيّ إلى السليمانيّة ووضع في يدِ الشحّاذِ نقوداً وسلاحاً ووثيقةً مُزوّرةً تماماً كما يحدثُ اليوم في عفرين وشرق الفرات.

وهكذا مرّةً أُخرى، يمكنُ تلخيصُ مشكلة أكرادِ العراق (ثمّ سورية) بمحورين:
الأوّل: هلْ يُريدُ الأكرادُ (فيدراليّةً) أم (كونفدراليّة) مع الشّركاء في الوطن؟ أي هل يريدونَ إقليماً خاصّاً بهم ضمنَ الدولةِ المركزيّة، أمْ يُريدونَ كياناً جغرافيّاً وسياسياً مُستقلّاً يدخلُ في (اتّحادٍ جديدٍ) مع الشّركاءَ في الوطن؟
الثاني: إذا ما افترضنا أنّهم يُريدونَ (فيدراليّة)؛ أي إقليماً خاصّاً ضمنَ الدولةِ المركزيّة، ففي هذه الحالة يجبُ أنْ يتخلّوا عن المُطالَبةِ بمناصب في الحكومةِ المركزيّة (منصبُ رئيس الجمهوريّة ووزراء وسفراء ومدراء عامّون…إلخ)، لأنّكَ لا تستطيعُ أنْ تأكلَ (البيضة والتقشيرة) لوحدِكَ وتتركَ الشّركاء في الوطنِ ينظرونَ بحسرةٍ.
أمّا إذا افترضنا أنّهم يُريدونَ كونفدراليّة أي (كياناً جغرافيّاً/ سياسيّاً مُستقلّاً) يمُكن أنْ يدخلَ في اتّحادٍ طوعيّ في دولةٍ جديدةٍ، ففي هذهِ الحالة يجبُ أنْ يتخلّوا عن مطلبِ (الفيدراليّة)؛ أي أنْ يتخلّوا رسميّاً عن فكرةِ (الفيدراليّة)، لأنَّ من المستحيلِ الجمعُ بين المطلبَين، أنتَ لا تستطيع أنْ تجمعَ المطلبينِ في كيسٍ واحد.
عندما ينتقلُ شحّاذُ جامع السليمانيّة الأعمى إلى عفرين، ويفرشُ كفّيه دونَ أدنى احتراسٍ من الخطر، فقد يجدُ أنَّ هناك غريباً مُخادِعاً يمكنُ أنْ يضعَ -اليوم- لا النقود ولا السّلاح، ولا الوثيقةَ المُزوّرة؛ بل وهماً جديداً بأنَّ الحلَّ الوحيدَ هو التنفّسُ في هواءٍ طلقٍ جديدٍ ولكنْ في فراغِ الجغرافية لا أكثر.