علوم وتكنولوجيا

سماكة القشرة الأرضية سرّ تشكل القارات

يعرف معظم الناس أن كتل اليابسة التي نعيش عليها جميعاً تمثل 30٪ فقط من سطح الأرض، والباقي مغطى بالمحيطات. وكان ظهور القارات لحظة محورية في تاريخ الحياة على الأرض لأسباب ليس أقلها أنها المسكن المتواضع لمعظم البشر. ولكن مايزال من غير الواضح بالضبط متى ظهرت هذه الكتل الأرضية القارية لأول مرة على الأرض، وما هي العمليات التكتونية التي أنشأتها.

يقدّر البحث، المنشور في مجلة “وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم” أن عمر الصخور من أقدم الأجزاء القارية (تسمى كراتون) في الهند وأستراليا وجنوب إفريقيا.

كان من الممكن أن تكون الرمال التي خلقت هذه الصخور قد شكلت في يوم من الأيام بعضاً من أوائل الشواطئ في العالم، ويستنتج من ذلك أن القارات الكبيرة الأولى كانت تشق طريقها فوق مستوى سطح البحر منذ حوالي 3 مليارات سنة، أي قبل الـ 2.5 مليار سنة التي قدرتها الأبحاث السابقة.
عندما ترتفع القارات فوق المحيطات فإنها تبدأ في التآكل، إذ تكسر الرياح والأمطار الصخور إلى حبيبات من الرمال، تنقلها الأنهار في اتجاه مجرى النهر وتتراكم على طول السواحل لتشكل الشواطئ، حيث من خلال مسح السجل الصخري بحثاً عن علامات على رواسب الشواطئ القديمة، يمكن للجيولوجيين دراسة حلقات تكوين القارة التي حدثت في الماضي البعيد.
تحتوي سنغبوم كراتون، وهي قطعة قديمة من القشرة القارية التي تشكل الأجزاء الشرقية من شبه القارة الهندية، على عدة تشكيلات من الحجر الرملي القديم. وقد تشكلت هذه الطبقات في الأصل من الرمال المترسبة في الشواطئ ومصبات الأنهار والتي تم دفنها بعد ذلك وضغطها في الصخور. ويمكن تحديد عمر هذه الرواسب من خلال دراسة الحبيبات المجهرية لمعدن يسمى الزركون، الذي يتم حفظه داخل هذه الأحجار الرملية. يحتوي هذا المعدن على كميات ضئيلة من اليورانيوم، والذي يتحول ببطء شديد إلى رصاص عبر الاضمحلال الإشعاعي. وهذا يسمح بتقدير عمر حبيبات الزركون هذه باستخدام تقنية تسمى تأريخ اليورانيوم بالرصاص، وهي مناسبة تماماً لتأريخ الصخور القديمة جداً. تكشف حبيبات الزركون أن أحجار سينغبوم الرملية قد ترسبت منذ حوالي 3 مليارات سنة، ما يجعلها من أقدم رواسب الشواطئ في العالم، كما يشير هذا أيضاً إلى ظهور كتلة يابسة قارية فيما يعرف الآن بالهند قبل 3 مليارات سنة على الأقل.
ومن المثير للاهتمام، أن الصخور الرسوبية من هذا العصر تقريباً موجودة أيضاً في أقدم كراتون أستراليا (كراتون بيلبارا ويلغارن) وجنوب إفريقيا (كابفال كراتون) ، مما يشير إلى ظهور العديد من كتل اليابسة القارية حول العالم في هذا الوقت.
كيف تمكنت القارات الصخرية من الارتفاع فوق المحيطات؟.. الميزة الفريدة للقارات هي قشرتها السميكة والطفوية، والتي تسمح لها بالطفو على قمة وشاح الأرض، تماماً مثل الفلين في الماء، ومثل الجبال الجليدية، حيث يبرز الجزء العلوي من القارات ذات القشرة السميكة (عادة أكثر من 45 كم) فوق الماء، في حين إن الكتل القارية التي تحتوي على قشور أرق تمتد حوالي 40 كم تظل مغمورة.

لذلك إذا كان سر صعود القارات يرجع إلى سمكها، فنحن بحاجة إلى فهم كيف ولماذا بدأت الكتل الأكثر سمكاً بالتشكل أولاً. معظم القارات القديمة، بما في ذلك كراتون سينغبوم، مصنوعة من الغرانيت، والتي تشكلت من خلال ذوبان الصخور الموجودة مسبقاً في قاعدة القشرة.

وجد في البحث أن الغرانيت في كراتون سينغبوم تشكل على أعماق أكبر بشكل متزايد منذ حوالي 3.5 مليار إلى 3 مليارات سنة، ما يعني أن القشرة أصبحت أكثر سمكاً خلال هذه النافذة الزمنية. نظراً لأن الغرانيت هو أحد أنواع الصخور الأقل كثافة، فقد أصبحت القشرة القديمة لـ كراتون سينغبوم أكثر ازدهاراً مع زيادة سمكها. يُظن أنه منذ حوالي 3 مليارات سنة تكونت القشرة القارية لـ كراتون سينغبوم لتصل إلى حوالي 50 كيلومتراً، ما يجعلها طافية بما يكفي لبدء الارتفاع فوق مستوى سطح البحر.

كان لظهور القارات تأثير عميق على المناخ والغلاف الجوي والمحيطات في بدايات الأرض. وكان من الممكن أن يوفر تآكل هذه القارات مغذيات كيميائية للبيئات الساحلية التي ازدهرت فيها الحياة المبكرة للتمثيل الضوئي، ما أدى إلى طفرة في إنتاج الأكسجين، وفي النهاية ساعد في خلق جو غني بالأكسجين الذي نزدهر فيه اليوم.
كان من الممكن أن يساعد تآكل القارات المبكر أيضاً في عزل ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، ما يؤدي إلى تبريد عالمي للأرض المبكرة. وفي الواقع، ظهرت أقدم الترسبات الجليدية أيضاً في السجل الجيولوجي منذ حوالي 3 مليارات سنة، بعد فترة وجيزة من ظهور القارات الأولى من المحيطات.

ترجمة: عناية ناصر