ثقافة وفن

مقعد الذّكريات

 

وضعتني الحياة أمام مفارق طرق كثيرة، وفي كلّ مرّة كنت أمضي نحو ما أؤمن أنّه طريق الحق والجمال، لكنّني اليوم أمام طريق لم أختره، بل هو من اختارني، ربّما لأنّني الآن أضعف من أختار.. هواجس مخبّأة في قعر روحه سيطرت عليه هذا اليوم، حاول الهروب منها دون أن يستطيع، وأمام إلحاحها حمل عصاه التي باتت جزءاً حميماً منه وخرج من البيت لا ينوي وجهة محددة، كان الهدف أن يخرج وكفى..

كان كلّ شيء مختلفاً، الدروب رماديّة ممتدّة إلى اللاّ نهاية، والقلوب مشبعة بصقيع لا علاقة له بالبرودة التي عمّت الأجواء، هو صقيع الروح الذي كان أشدّ قسوة، مرّة واحدة سقطت كل الأقنعة عن الوجوه التي كان يراها جميلة خلال مروره في حيّه، ليلمح وجوهاً أشعرته بالغربة وكأنّه يراها للمرة الأولى، أشجار الحديقة المجاورة لم تبادله التحية مثل كل يوم، حتّى رائحة الخبز لم تشعره بالدفء الذي يشعر به عادة، كلّ شيء كان يشي بالحزن، ربّما هو الحزن المكبوت داخله سيطر على كل ما تقع عليه عيناه، خرج دفعة واحدة ليحلّ عليه وعلى العالم، فلا شيء في الرّوح سوى الخراب..

دون أن يقصد، ذهبت به قدماه إلى تلك الحديقة، حديقة الذكريات، دخل وجلس على المقعد الخشبي ذاته الذي كانت تسبقه إليه لتنتظره، على ذلك المقعد تبادلا الوعود الأبديّة وبأنّهما سيتحديان العالم ليبقيا معاً العمر كلّه، هناك أخبرته أنّه الوطن والملجأ الذي ستبقى تحتمي فيه على الدوام، وطالبته أن يعدها بالمثل، على ذلك المقعد كان الاعتراف الأول والهدية الأولى، ومنه بدأ الحلم يختاره ويرسم مساره وباتت الدّروب تتلوّن بألوان الحياة، وعلى ذلك المقعد ذاته أتت بكامل أناقتها لتخبره أنّ للقدر مكانه في قصّتهما وأنّها لن تستطيع البقاء معه..

شقّت الشمس غيوماً حاولت حجبها، فتداخلت خيوط النور مع الغيوم العابرة لتنسج لون سمائه التي نظر إليها بعينينن شبه مغمضتين، ولتجتاحه كلّ الذكريات وتعلن سطوتها على أفكاره مجدّداً، ذكريات مشبعة بالتّفاصيل، اشتعلت فجأة لتلتهم نيرانها كلّ عقله، وما من قدرة على إخمادها..

كان في كلّ يوم يتضرّع للخالق لكي يعود إليها، يحمل دمه على يديه اللّتين حارب بهما العتمة والخوف والدمار، ويقف على جبهات القتال وفي قلبه وطن يسع حبّه الأرض، وحبّها، كان يريد حياة من نور يعيشها معها ولأجلها، لطالما ودّعها وداعه الأخير لأنه شعر أنّها معركته التي لا عودة له بعدها، لكنها كانت تمدّه بالعزيمة، وتصرّ عليه كي يعدها بالعودة، رافقته في كل معاركه، وفي لحظات كثيرة كان صوتها يملأ الساحات ليسكت صوت المدافع والقنابل، تعبا وصبرا معاً وانتصرا معاً، وكانا على يقين أن نهاية قصّتهما فرح يعمّ المكان والزمان..

لماذا بعد هذا كله تخلّت عنه، أين تذهب الوعود حين تجد نفسها ملقاة على عتبة قلب يزدريها ولا ملجأ يداريها ويحميها، كيف تموت المشاعر فجأة، ولا تجد من ينقذ نفَسها الأخير الذي ينتظر ربما لهفة ما أو حتّى كلمة تعيد إليه شهيق الحياة، ما ماهية الممحاة السحريّة التي تمكّنت من محو كلّ شيء، هكذا، وبهذه السّرعة، ما معنى أن تتحوّل حكاية عمره البهيّة إلى خنجر غدر يطعنه كلّ يوم ألف مرّة، أسئلة لطالما أرّقته، دون سبيل للإجابة، ولعلّه كان يهرب منها، الصّورة المقدّسة التي رسمها لها كانت تحرمه من الإجابة، فهو لم يعتقد، ولو للحظات، أنّها ستكون هي هزيمته في معركته الأخيرة..

رفع رأسه قليلاً وهو ينظر إلى السماء وكأنّه ينتظر شيئاً منها، بقي كذلك لدقائق، لتهطل دموع السّماء فجأة وتمتزج بعبرات حائرة تريد الانفلات من ضعف يتوارى خلف قوة لطالما أثبتت جدواها، ازداد الهطول بغزارة، وعمّت رائحة التراب الممزوج بماء السماء كلّ الأرجاء، أغمض عينيه، تنفّس عميقاً ليخرج زفير راحة ينشدها، حمل عصاه واتّكأ على ساقه الوحيدة، احتضن روحه، ولملم شتات ذاته، وراح يعدّ خطواته الهاربة من أفكار ما لبثت أن هدأت واستسلمت وعادت لمخبئها في زاوية من زوايا الذاكرة..

 

هديل فيزو