ثقافة وفن

“الحياة رواية” عند غيوم ميسو

 

ينتقي الروائي الفرنسي غيوم ميسو -1974- اسماً معقداً وبسيطاً في آن لواحدة من أهم رواياته-حسب تقدير شخصي-” الحياة رواية”-صدرت عام 2020-؛ معقد لجهة تعريف الحياة بكونها رواية، وبسيط في وضعه أعلى وأقرب تعريف للرواية بأنها “حياة” هذا عدا عن كون العنوان نفسه، يحمل أو يُجمل فيما يحيل عليه من دلالة ومعنى، فلسفة فن الرواية، عند صاحب “فتاة بروكلين”-صدرت 2016-..

يدمج غيوم بين أكثر من نوع أدبي في “الحياة رواية” بوليسي-نفسي، بشكل رئيسي، وهذا سببه فهمه لطبيعة العمل الروائي، بكونه صورة عن الحياة، أو بكون الحياة نفسها رواية، وبالتالي فإن كل ما يحدث في الحياة، من أحداث مختلفة النوع والأثر، بمسببات تلك الأحداث النفسية أو المادية، ومن ثمة تعقيداتها، يحدث في الرواية ويشكل قماشتها السردية، ويتجلى الجانب الإبداعي هنا، في قدرة الكاتب على تطويع الوقائع، ملائماً بين جوهرها ودلالتها، ومن ثم تقديمها بما يجعلها تستحق أن تكون عملاً روائياً، مع التركيز الشديد على البناء الحكائي، اللغة، الشخصيات، فليست كل شخصية في الحياة، يمكن لها أن تكون شخصية روائية، ومحدد هذا الأمر، هو تجربة الشخصية، أثر هذه التجربة، عليها وعلى عالمها المحيط، خلاصات تجربتها، وهذا أيضاً ما يميز كاتباً روائياً عن غيره، قدرته على التقاط اللحظة الإنسانية الخاصة أولاً، وعلى رصد الحالة الواقعية المناسبة، ومعالجتها تقنياً في المقام الثاني، وفي حالة “الحياة رواية” فإن انتقاء الكاتب للحالة، جاء ذكياً سواء في نوعه، أو في معالجته.

تبدأ أحداث الرواية بالخط البوليسي، وهو الحامل العام للنفسي، الذي يسلك مسلكاً مفاجئاً، ليأخذ الرواية نحو التصعيد المستمر، مع اختلاف دافع هذا التصعيد ومسبباته، واستخدام ميسو لهذه التقنية في السرد، سببه أن الحبكات البوليسية، ترتبط ارتباطاً متنوعاً ومعقداً بالبعد النفسي للشخصيات، كما أن براعة الكاتب التقنية هنا، تظهر في قدرته، على خلق حالة تشويق متلاحقة، متعددة الذرى، تقبض على القارئ من الصفحات الأولى، مغرية إياه بتجربة بوليسية مشوقة، لحل اللغز، دافعاً إياه للمتابعة بتواتر متصاعد، وهذا ما فعله صاحب “لأنني أحبك” صدرت عام 2007- فثمة لغز محير عن اختفاء الطفلة “كاري” البالغة من العمر ثلاث سنوات، فُقدت أو اختُطِفَت من منزلها الكائن في الطابق السادس في مبنى “لانكستر” الضخم في نيويورك، بينما كانت تلعب “الغميضة” مع أمها فلورا. ما من أي دليل دليل على أن حادثة اختطاف وقعت، ما يصيب كلاً من المحقق “مارك روتيللي” ورئيسته الملازم “فرانسيس ريشارد” بالذهول والحيرة، لدرجة وصفهم حادثة الاختفاء بقولهم: كاري تبخرت، خصوصاً وأن كل الوقائع تنفي ما وقع، فلا أثر على أي دخول أو خروج من بيت فلورا وكاري، الباب مازال مقفلاً بالمفتاح من الداخل، الشقة مرتفعة والنوافذ مغلقة بإحكام، أما فلورا فقد قلبت الشقة رأساً على عقب، دون أن تجد ابنتها.

يرفع ميسو من منسوب التحدي له ككاتب وللمتلقي، فالتيمة البوليسية لن تبقى كذلك، والعالم الذي كان قائماً على ذلك اللغز، سيتغير تماماً، وهنا سيستخدم الكاتب تقنية “حكاية داخل حكاية” وستدخل على الخط تيمة أخرى، وأحداث أخرى وحبكات أخرى، منفصلة ومتصلة عن الرواية في وقت واحد، وتحمل اسماً خاصاً بها “المتاهة” نطل فيه على حياة الكاتب الشخصية، وعلى اللعبة البارعة التي وضعنا في مركزها، فما جرى مع فلورا وكاري، هو في الواقع ما اختاره الكاتب “رومان أوزوروسكي” بطل الرواية لشخصياته، وهو هنا كاتب روائي، يتفنن في اختراع العقبات أمام شخصياته، التي تنقلب عليه، ومنها شخصية “فلورا”، الروائية الغامضة التي فازت بجائزة أدبية رفيعة، لكن حياتها الشخصية غير معروفة أبداً، حتى أنها ترفض الخروج بلقاء صحفي مع أشهر صحف العالم، عقب فوزها، لتتكشف فيما بعد أسباب هذه العزلة، مع مضي الرواية نحو خواتيمها، التي نترك للقارئ أن يعرفها، كي لا يفوته جزء من المتعة، خصوصاً وأن غيوم ميسو، يواصل في استخدامه للحبكة البوليسية المتقنة، كتقنية سردية مشوقة وفعالة في تظهيرها للأحداث.

الاشتغال على الشخصية في العمل الروائي، هو الجهد الأهم الذي يصرفه كتاب الرواية في صناعتها، ونقول صناعة الرواية، على اعتبار أن الجانب الإبداعي فيها، لا يؤتي أكله مهما كان بديعاً، مالم ينصع للخطة التي يضعها الروائي لكتابة منجزه، وصياغة تفاصيل الشخصية، هي المفصل الأبرز في هذه الخطة، ليس الشخصية الرئيسة فحسب، بل باقي الشخصيات المؤثرة، مهما كان حضورها قصيراً في الزمن الروائي، وصاحب “شقة في باريس”-صدرت عام 2017-يبرع في خلق شخصياته وتفاصيلها، نفسياً وشكلياً، حتى يكاد الظن أن يأخذ القارئ، بكونه يرى الشخصية، لا يقرؤها فقط.

 

تمّام بركات