الشريط الاخباريثقافة وفن

“ثم أزهر الحزن”.. قصة صراع وأمل وحب

“امتدت مطامحي إلى أبعد مما رسمت أمي لنا من مخطط حياة، أو وضع لها أبي”، “وأي مانع يحول بيني وبين أن أتجه إلى دراسة أعلى شأناً؟..”، هي خواطر راودت بطلة رواية “ثم أزهر الحزن”، للكاتب فاضل السباعي، الفتاة التي لطالما مشت كما رسم لها والدها، حادت عن الطريق لتسير بآخر مختلف تماماً، ليس لعدم قناعتها به، بل لطموح لديها ورغبة منها في بلوغ أعلى المراتب العلمية.

في الحياة قد لا تكون الطريق المرسومة لأي شخص تعني أنها الأصلح له، بل ربما تكون الوحيدة التي يمكن التفكير بها في ظل ظروف معينة تفرض نفسها لاعتبارات كثيرة، غير أن الخروج عنها لا يعني بالضرورة أن المرء ابتعد عن الطريق القويم السليم، إذ يمكن أن يكون ما يختاره هو الأمثل له، ويلبي رغباته وحاجاته أكثر من سابقه.

هكذا اختارت هالة، البنت الوسطى، لأسرة مكونة من أم أرملة وخمس شقيقات وأخ صغير جاء إلى الدنيا بعد أن رحل الأب بمرض عضال، أن تغير وجهتها عن دار المعلمات التي كان والدها يرغب أن تدخله بناته، كون لقمته أقرب، كما يُقال، لتتجه نحو المحاماة ودراسة الحقوق و”إذ كانت تستنفد بعض الوقت فإنها تُغلُّ دخلاً طيباً مرموقاً آخر الأمر”.

هالة التي قدمها الكاتب كأنموذج للفتاة الذكية، المكافحة، المثابرة، التي تمتلك من العزيمة والإصرار ما أوصلها إلى قمة النجاح، رغم ما مرت به من أحزان أزهرت في النهاية حباً وفرحاً، وليست وحدها من ظفرت بذلك، كذلك شقيقاتها اللواتي نلن نصيبهن من التفوق العلمي والحياة الرغيدة، بعد سنوات سكن فيها الحزن دارهم منذ فراق والدهم وهو في رعيان شبابه لتلحق به أختهم الكبرى وهي في زهوة ربيعها، وهذا كان الحافز لهن للمضي إلى الأمام لإسعاد قلب أم مزقته الأوجاع.

وعلى الرغم مما وصلت إليه الشقيقة الطموحة وحققته في مضمار العلم والعمل، إلا أنها ما تزال تنتظر كتفاً تستند عليها، تنتظر رجلاً غادرها هو الآخر وحيدة، وهي التي سارت في ذاك الطريق بسببه، تحتاجه ليشاركها أفراحها ونجاحاتها، لتجد في صاحب العينين البحريتين ملاذاً تلجأ إليه في عتمة أيامها، وتختبئ فيهما من نظرات المجتمع التي لا ترحم فتاة بلا أب أو أخ يحميها، مهما علا شأنها، وهو ما عبرت عنه بقولها “كتب على الأنوثة أن تظلَّ قاصرة الجناح، مهما شاء مكر الرجال بإعزازها والتظاهر بتقديمها عليهم في نوافل الأمور”.

استطاع السباعي أن يعبر بصدق عن مشاعر الأنثى ويتغلغل ببراعة في أعماقها، ويصف ما يختلج في نفسها من صراعات، راصداً انفعالاتها الهادئة والعميقة، كما صور نضال الأسرة التي فقدت مُعيلها وعمادها، وكفاح الأم التي قضت الليالي تعمل بالخياطة لدرء الحاجة عن نفسها وعن بناتها، وتصون “حمائمها”، كما يصفهم الأب، وتحقق ما تصبو إليه في سياج من الاستقامة والكرامة، محافظة على القيم القديمة والمثالية.

هي شريحة من المجتمع السوري، عاشت في خمسينيات القرن الماضي، حالها كحال الكثير من الأسر في حاضرنا، عائلاتٌ عانت بسبب الحرب، وفقدت الأب والأم والابن، وضاقت عليها ظروفها جراء الأوضاع الاقتصادية الصعبة، لتبدو الرواية وكأنها جزء من حقيقة واقعية جسد الكاتب تفاصيلها ونقل حياة أبنائها، كدهم وكفاحهم وانتصارهم، بأمانة ودقة، هي رواية بدأت بالموت وانتهت بالحياة، زرع من خلالها الكاتب أملاً يُزهر في النفوس وسط زحام الحياة ومصاعبها.

 

قراءة – رغد خضور