أخبار البعثسلايد

أين نحن من الصراع في أوكرانيا؟

د.عبد اللطيف عمران
يمكن القول وبدرجة كبيرة من اليقين إن الصراع في أوكرانيا هو أكبر من نزاع عسكري بين روسيا وأوكرانيا، إذ هو واحد من التجليات الكبرى المعاصرة لكون (المركزية الغربية رديفة الهيمنة أحادية القطب)، فهاتان المترادفتان: المركزية وأحادية القطب لطالما عانت منهما شعوب العالم من (أوجاع تاريخية) على امتداد الزمان والمكان. إذ إن نزعة المركزية الغربية التي أنتجها عصر الحداثة – ورغم ما أنتجته من تقدم وتطور في الفكر والتقنية – أنتجت في الوقت نفسه نزعة الاستعلاء والاستبداد والتوسّع وصولاً إلى الظاهرة الاستعمارية واحتلال أراضٍ وإرادات ومصائرَ في إفريقيا وآسيا وأمريكا.
ويقدّم تحليل الخطاب المعرفي الذي تقوم عليه هذه المركزية كثيراً من الدلالات على الأسس التي بُنيت عليها، ومنها فرض نفسها على الآخر بالرضى أو بالإكراه، والنظر إلى الآخر من منطلق العِرق، أو العنصر، أو الدين… وآية هذا ما نجده اليوم في طموح سياسات الهيمنة وأحادية القطب إلى صياغات جديدة للنهج الذي عزّزته المركزية الغربية للعلاقات بين المستعمِر والمستعمَر – بكسر الميم وفتحها – . هذه الصياغة التي استهدفها الفكر المستنير لعصر ولمؤلفات (ما بعد الحداثة) التي دعت إلى التركيز على جدوى الطابع الإنساني للفكر وللمعرفة، هذا الطابع الذي تضاءل في فكر عصر الحداثة الذي لم يستطع أن يجنّب البشرية ويلات حربين عالميتين، وقبلهما حروب عديدة إحلالية وإبادية، واستعمارية غاشمة في مختلف بقاع الأرض بالرغم من مؤلفات هيغل وماركس وروسو وكانط وهيدجر.
ونحن حين نتبنّى هذا الرأي، فإننا لا ننطلق من الانتماء السياسي أو الحزبي أولاً، بقدر ما نؤمن بجدوى الانتماء إلى الظاهرة المعرفية العميقة وبضرورتها، قبل الإيمان بالانتماء إلى الظاهرة الإيديولوجية الصارمة، فقد تأكّد للمهتمين أن دراسة المسألة الاستشراقية مرتبطة بدراسة المسألة الاستعمارية، وأن المركزية الغربية ملتبسة ومتخفّية في كتابات المستشرقين وفي أهداف مراكز الأبحاث والقرار التي يخدمونها من أمثال نيكلسون وجولد تسيهر وبرنارد لويس وبريجنسكي وفوكوياما وهنتنغتون، والمحافظين، والمؤرخين الجدد، وصولاً إلى هنري برنارد ليفي ووائل غنيم وداعش والدبلوماسية الروحية والاتفاقات الأبراهامية. ومن هنا تأتي أهمية كتابي إدوارد سعيد: الاستشراق، والثقافة والامبريالية، وأهمية الاطلاع على الردود عليهما ولا سيما الرد الخطير والمؤذي المستشرق الصهيو-أطلسي برنارد لويس.
أما المقصود بكلمة نحن؟، فهذه مسألة مهمة.
نحن في هذه المنطقة من العالم الذي كان يدعى في القرن الماضي: الشعوب الآفرو أسيوية – الأمريكية اللاتينية، وكان لها منظمة تضامن معروفة وفاعلة غيّبها الناتج عن انهيار الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، هذه الشعوب التي حققت بتضامنها حضوراً قوياً في التنمية والاستقلال، وفي مواجهة الاستعمار والاحتلال والهيمنة، هي تعاني اليوم من الحصار والعقوبات والاستهداف المستمر… وهذا ما تضمنته كلمة الجمهورية العربية السورية أمام الاجتماع 77 للجمعية العامة للأمم المتحدة التي ألقاها أمس وزير الخارجية الدكتور فيصل المقداد، فذكر منها على سبيل التعداد وليس الحصر: سورية وروسيا وإيران والصين وكوبا وكوريا الديمقراطية وفنزويلا وزيمبابوي ونيكاراغوا… مؤيّداً ومنتصراً لحقوقها ومطالبها وسياستها ضد هيمنة أحادية القطب ومركزية الغرب المتجلّية بإرهاب التحالف الصهيوأطلسي.
وأما الصراع في أوكرانيا فقد كان يمكن تجنّبه لو قدّمت الإدارة الأمريكية ضمانات أمنية مكتوبة إلى روسيا، لكن البرنامج الأطلسي فضح نفسه بنفسه فبدأت الحرب وتطورت إلى صراع أكبر من إقليمي، وصار أكبر من نزاع محدود بين روسيا وأوكرانيا، بل هو بين المركزية الغربية وأداتها الهيمنة وأحادية القطب من جهة، وبين دول كبرى كروسيا والصين وغيرهما ترفض أن تكون هامشية أو ذات دور ثانوي، وهو ينبىء بسنين قادمة قد لا تكون عديدة تتهاوى فيها الهيمنة والمركزية الغربية في كل شيء، وببداية لواقع جيوسياسي جديد يخلصنا كمنظومة وكشعوب من صدوع تاريخية وجيوسياسية مؤلمة وراسخة في الذاكرة تعمل هذه الهيمنة على استدامتها على الرغم من محاولات مد الأيادي لتعزيز الأمن والسلام والاستقرار والتعاون الدولي إلى الغرب، ومن تكرار الحديث الدبلوماسي الصيني والروسي عن (شركائنا الغربيين)، ما دفع بالرئيس بوتين منذ شهرين إلى القول: (لم نبدأ أي شيء بعد). وهذا ما اتضح خلال الشهرين الماضيين، ويبدو أنه سيتضح أكثر في قادم الأيام، فهناك اليوم حديث في الغرب عن نمو متصاعد (لجروح ذاتية داخلية عميقة) آخذة في التوسّع والتقيّح منتشرة بين منظومته وشعوبه ومثقفيه.
إذن، إنها قصة صراع قديم، ومستمر، وقد لا ينتهي، إذا لم تنتهِ هذه المركزية والقطبية الطامعة، ونحن فيها كما ورد في كلمة سورية بالأمس نؤيد شركاءنا في روسيا والصين وإيران و… فالمسألة مسألة مصير وفيها قيل: شرف الوثبة أن تُرضي العلا / غلب الواثب أم لم يغلبِ.