ثقافة وفن

انتصارات تخطّ الحياة بين دفتي “عندما تزدحم دروب السماء”

هي الحرب في كل مكان وزمان، لابد من دماء تخط الحياة بين النصر والشهادة، وكي تكتمل عيون النصر لابد من دموع ثكالى وغصات أيتام، ولابد من مواقف يمجّدها التاريخ لحلفاء يتعاضدون في سبيل النصر، رغم تخلي بعض أبناء عروبتنا وجلدتنا من أجل أجندات خارجية.
هذه العبارات اختزلت كتاب “عندما تزدحم دروب السماء”، للكاتبة نور كوركو، مجسدة صمود أهل مدينتها “نبل” تحت نير الحرب والظلم مدة أربع سنوات متتالية منذ صيف عام 2013 لتزدحم سماء مدينتها بدروب الدعاء والصلاة والاستغاثة التي كانت تُرسل على أجنحة الأثير إلى بريد السماء، ترافقها الأمنيات البريئة الخجولة التي تقف على كتف نجمة براقة تعد بانبثاق الفجر عما قريب.
بأسلوب سردي سلس جسّدت نور كوركو عبر واحد وعشرين فصلاً تفاصيل حياة أهل مدينتها إبان أربع سنوات، كيف يعيشون، ماذا يأكلون ويشربون، خوفهم وهلعهم وقذائف الغدر تنهال عليهم من كل حدب وصوب، وكيف عالجوا مرضاهم، مجسدة لوعة الفراق وصبر عوائل الشهداء.
لامست الكاتبة حالة الجوع التي لا تعرف كبيراً ولا صغيراً، ففي عام 2013 في “أربعينية الشتاء لم يبق في البيوت طعام ولا وقود، توقفت الأفران عن العمل لنفاد الطحين، كنا نأكل الخبز المجفف المنقوع في الماء ليصبح قابلاً للأكل وسهل البلع وبعض الجيران كانوا ينقعون البرغل ثم يأكلونه نيئاً، في تلك الأيام بات أهل “نبل” سواسية لا فرق بين غني وفقير لأن المال لم يعد يؤدي شيئاً إذ لا طعام ولا أشياء أخرى يمكن أن تشترى بالمال، وأغلقت الدكاكين أبوابها، وشبابنا غادرونا لمحاربة المسلحين وكلهم ثقة أن يعودوا ومعهم راية النصر وأن يحضروا الطعام لأطفالهم”. اللافت فيما سطّرته الكاتبة بوريقات كتابها المائة والستين تفاني رسل العلم الذين حملوا أوراق امتحانات الشهادة الإعدادية ولم يرجع أحد منهم وكأنهم صعدوا إلى حتفهم بعد استهداف طائرتهم وهي تهبط في أكبر مدارس المنطقة بصاروخ، فألقى الكادر التدريسي صناديق الأوراق الامتحانية في الجبل القريب مودّعين الحياة.
ولم تغفل الكاتبة عن تسليط الضوء على ملاحم نسور السماء البطولية عبر صمودهم الأسطوري في مطار منغ في صد هجوم عنيف عن طريق السياج الجنوبي للمطار، بعد أن فتح المسلحون ثغرات في سياجه وأدخلوا العربات المفخخة وفجروها عن بعد، ودخولهم عبرها وانتشارهم داخله وتخيير من وجدوه في غرف منامات الطيارين بين الموت أو الانضمام لهم، وأكثرهم اختار الموت، استشهد الكثير نظراً لعدم تكافؤ عدد الطرفين، الهجوم كان بالآلاف والدفاع بالمئات فقط، كما قاموا بإحراق جميع الحوامات نظراً لعدم معرفتهم بقيادتها، وبقي الطلاب والضباط يدافعون عن الأجزاء التي ركنوا فيها من المطار حتى مغادرتهم له، ولكن للقدر دائماً بصماته إذ لم يكن بين المنشقين ولا طيار، فمن تربّيه سماء سورية على التحليق عالياً يرفض أن يموت على الأرض ذليلاً.
الكاتبة عزفت على وتر حساس عانت منه الكثير من العائلات إبّان الحرب وهو تعدد المواقف في العائلة الواحدة ما بين مسلح باع وطنه ومحبّ مدافع عن أرضه، من خلال الطيار العميد شرف “محمود أبو حمود” وأخيه “خالد” الذي كان على السياج مع المسلحين فطلب من أخيه الخروج قبل قصفهم المطار وذبح الجنود والضباط، في نفس الوقت الذي كان يراه على سياج المطار على بعد ثلاثة أمتار فوق كومة من الحجارة، وهنا بدأ صراعه مع نفسه مرة يرقّ قلبه لأخيه ومرة يخفق في سبيل وطنه، فكان الامتحان قاسياً وكانت كلمته التي حدّت الخصام.
المؤلم بالرواية هو الهجرة من الوطن إلى الوطن عبر طريق عفرين الذي تم فتحه بعد مساع من الدولة السورية والأصدقاء والسماح للطلاب والمرضى ذوي الأمراض الصعبة بالمغادرة من المدينة إلى تركيا والعودة إلى مطار القامشلي للذهاب إلى دمشق أو أي محافظة سورية، ورغم أن الطريق غير آمن ومن الممكن التعرض للخطف أو الوقوع في يد حراس الحدود التركية، كان لابد من السفر، وعندما تصل الحافلة إلى الحدود السورية التركية يسلّم المسافرون للمهرب الذي سيدخلهم الأراضي التركية بطريقة غير شرعية ليعودوا منها إلى القامشلي، وعندما يصلون الحدود من داخل تركيا ينزلهم الدرك التركي ويتم أخذ أسمائهم والتقاط صور لهم وتقيّد بياناتهم الشخصية في سجلات ليحصلوا بها على مساعدات وإمدادات من هيئة الأمم المتحدة باعتبارهم لاجئين.
ختمت الكاتبة روايتها التوثيقية بنقلنا بطريقة الخطف من الخلف إلى 1 شباط عام 2016 لحظة إعلان ساعة الصفر لبدء العملية العسكرية لفك الحصار عن المدينتين، بدءاً بالتمهيد الجوي السوري الروسي، يقابله بث أخبار كاذبة لقنوات الخداع والإفك بغية تثبيت الإرهابيين الذين كانوا يستغيثون بأسيادهم في الخارج، حيث تتمكن القوات العسكرية من سدّ أفواههم إلى الأبد وتبدد أوهامهم، لتزدحم دروب السماء متعاضدة مع دروب الأرض وتشرق شمس “نبل” مكللة بالغار.
يذكر أن الكتاب صادر عن دار كنانة للطباعة والنشر والتوزيع، كتبته نور كوركو كإهداء لأرواح شهداء الجيش العربي السوري والقوات الرديفة الذين ضحوا بدمائهم في سبيل عيش أهل مدينتها وشقيقتها الزهراء بكرامة وأمان.
ليندا تلي