أخبار البعثسلايد

البعث وجماهيره

د. عبد اللطيف عمران

يشهد حزب البعث اليوم، وفي الذكرى الثانية والخمسين للحركة التصحيحية المباركة، ترقّباً ينوس حول ما يُعرف في العلوم الاجتماعية بـ (مسافة التوتر، وأفق الانتظار)، لأنه يتعرض لأسئلة تتعلق بالنظرية وبالممارسة حول أهدافه وشعاره، وحضوره، وطبيعة هذا الحضور والدور بمعزل عن غياب المادة الثامنة في الدستور السابق.
وهذا أمر طبيعي لحزب يكاد يكون الباقي الوحيد من الأحزاب التي نشأت في مرحلة اليقظة والنهضة العربية، وفي معمعان حركة التحرر الوطني العربية والعالمية، فكان من أبرزها فكراً ودوراً وفعلاً في الوطن العربي إذ انتشرت منظماته وكوادره وأفكاره من المحيط إلى الخليج، إضافة إلى حرص منتسبيه على حملها معهم حين رحيلهم إلى البلدان الأجنبية، وهذا ما لم تعرفه الأحزاب العربية الأخرى من حيث صمودها في وجه المتغيرات، ومرور الزمن.
هذه الاستمرارية القابلة للبقاء وللتطور لها أسباب عديدة يتعذّر اختصارها، لكن يمكن الحديث في أبرز ملامحها، منها أن الحزب نشأ كفكر وكمبدأ وكمنهج في الأساس، ثم صار تنظيماً سياسياً، وبعدها وصل إلى السلطة، وقبل عقد من الزمن ذهبت سلطته في النص كامتياز دستوري . وبقيت المبادئ والأفكار والجماهيرية، وهذه أمور لا تتقادم مع الأيام، ولا تتلاشى، لأنها في الأساس قيم وثوابت ومصير ومصالح وهوية أيضاً لا يمكن محوها من الذاكرة الوطنية ولا العروبية، وهي تُسطّر بأحرف من نور في وثيقة الوطن.
والبعث حين يكون حديث الذكريات، هو غيره حين يكون حديث الواقع، وهذا أمر طبيعي ليس قابلاً للمفاضلة، لكن التأريخ علم، وإتقان علميته تفرض المصداقية من حيث الإقرار أن البعث كفكرة ونظرية وممارسة لم ينشأ كاملاً مكتملاً دفعة واحدة بل عرك الأيام والأحداث وعركته، فشهد مزيداً من التباينات إلى حد الاختلاف منذ البدايات حتى المؤتمر التأسيسي الأول في 7 نيسان 1947 حيث الولادة غير المتفق تماماً على تشكيلها وموضوعيتها، وتحوّل عام 1952 بانضمام الحزب العربي الاشتراكي إليه من حزب الطليعة والنخبة مضافاً إليه العمال والفلاحون، وفي 1958 تم في سبيل الوحدة بين سورية ومصر التضحية بتنظيمه في سورية ويذكّرنا مآل هذه التضحية بمآل غياب المادة الثامنة من دستور عام 2012، وفي 1961 نجح الانفصاليون في الإجهاز على هذه الوحدة، وفي 1963 قادت جماهيره وكوادره ثورة الثامن من آذار، وفي 1966 قامت حركة 23 شباط وقضت على الانفصاليين وعلى اليمين المشبوه، وفي 16 تشرين الثاني 1970 قامت الحركة التصحيحية بمبادرة وقيادة الرفيق حافظ الأسد لتنقية الحزب مما لحق به من ترسبات وشوائب وتناقضات خلّفتها العقود والقيادات والاضطرابات السابقة، والتي كان لها صدى واسع في الدولة والمجتمع من حيث عدم الاستقرار، والاختلاف، والتشرذم، والضياع.
واستمر التصحيح نهجاً ديناميكياً حتى اليوم لا يعرف الجمود بل يقترن بالحيوية والتجدد والتعامل الفاعل مع معطيات الواقع المحلي والإقليمي والعربي والدولي على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية أيضاً، وأقلّ على المستوى الفكري…. !
مع الحركة التصحيحية تحقق الهدف المنشود والمعلن: (عودة الحزب إلى جماهيره وعودة الجماهير إلى حزبها)، فتوسّعت قاعدته التنظيمية -وتنوّعت-. وبقيت البنية النظرية أو الفكرية تئن تحت وطأة مخاض لم ينتهِ حتى اليوم، ولهذا أسباب ومسوغات، ووقائع أيضاً يطول الحديث أو البحث فيها، ويتشعّب، وهذا أمر طبيعي فنظرية البعث لم تنشأ كاملة، وكونه حزباً وطنياً وقومياً تقدمياً وجماهيرياً في الوقت نفسه كان من الضروري أن تكون نظريته متكاملة تتفاعل مع مرور الزمن وتطوّرات الواقع.
وللمنهجية والواقعية، أو الوقائعية، يمكن تقسيم الحركة التصحيحية في الحزب من حيث الزمن إلى مرحلتين، الأولى: من البداية في 1970، لتبدأ الثانية: مع مطلع الألفية الثالثة حتى اليوم، وهي مرحلة تغيرات واسعة وطنياً وعربياً وعالمياً في السياسة والفكر والاقتصاد والتكنولوجيا تعامل البعث معها بديناميكية فريدة في هذه المنطقة السياسية بامتياز من العالم، وفي هذا القطر الذي كان ولايزال وسيبقى قلب هذا العالم، وقلب العروبة النابض، على الرغم مما عصف به بعد 2010، وبالأمة العربية، وبالبعث أيضاً من تحديات ومخاطر ليس ضعفاً أن نقول: إنها لم تكن في الحسبان.
هذه سرديّة يجب أن نتقن صياغتها وأسلوب الحوار والإقناع فيها للأجيال الطالعة، وهي اليوم عرضة لسرديات مضادة مدعومة بملاءات البترودولار وما يتصل بها من خدمات وتحديات وافتنان، ومن هذا القبيل نجد اليوم أنموذجاً ساطعاً لأسلوب الحوار والاستبيان في العمل الحزبي والحكومي مقياسه الاستئناس والانتخابات في الإدارة المحلية، وبما يمكن من خلاله الوصول إلى جواب معياري عن الترقّب المثار، وأفق الانتظار في مطلع هذا النص.
وبالنتيجة: علينا نحن البعثيين في هذه الظروف أكثر من أي وقت مضى، أعضاء وجماهير، أن نعلي عملياً من شأن قولة الرفيق الأمين العام للحزب الرئيس بشار الأسد في اليوم الأول من المرحلة الثانية من عمر التصحيح:
(إن حزبنا العظيم، الذي كان دوماً طليعة المناضلين، وقلعة التحرير الحصينة، سيبقى في هذا الوطن منيعاً صامداً مجيداً، وسيتنامى أكثر فأكثر، وسيكون عماد أي استقرار ومحور أي تغيير أو إنجاز، وسيظل حزبنا أميناً لقيم البعثي الأول القائد حافظ الأسد).