ثقافة وفن

“ديستوبيا” مأمون الخطيب، حين لا منجى!

بين “المدينة الفاسدة” و”المزبلة الفاضلة”، فرق في الدلالة والإيحاء، حتى أنهما لا يشكلان ضدا لغويا ومعنويا لبعضهما، وفي حين يعود المصطلح الأول “المدينة الفاسدة” للعرض المسرحي “ديستوبيا” –إخراج مأمون الخطيب، يعود الثاني “المزبلة الفاضلة” للنص المُقتبس عنه الأول، لمؤلفه عباس حايك، إلا أن الرمزية في كل منهما، محققة في الاتفاق على فساد المكان، وعلى الحصار الذي تضربه الحياة الاستهلاكية القاسية على الناس، وكيف قسمتهم بين مجتمعين مختلفين تماما، مجتمع الطبقة الساحقة، ومجتمع الطبقة المسحوقة، مجتمع الاستهلاك المفرط، ومجتمع استهلاك البقايا وإعادة تدويرها ما أمكن.
وللقسم الأخير يعود أبطال العرض الأربعة، الذين سيقدمون حكاياتهم المنفردة، عبر مونولوجات رشيقة، وأداء يمكن القول أنه هو بطل هذه الفرجة المسرحية الشيقة والشاقة، أداء منوع ومختلف الرتم والإيقاع والشكل، فهو أداء “سلس” وهذا عائد لكل من رامي خلو الذي قدم شخصية “الممثل المسرحي” و للفنان إبراهيم عدبة، الذي قدم شخصية “الشاب البسيط”، وأداء “بارع”، وهذا عائد للفنانة “رنا جمول” التي عرفت كيف توظف السلوك المرضي للشخصية، لصالح الشخصية نفسها، فهي الشخصية الأنثوية الوحيدة الحاضرة في “ديستوبيا”، والغير موجودة في النص الأصلي، وفي هذا رهان كبير من المخرج على قدرات جمول التمثيلية، وقد كسبه، أما الأداء المدهش، فهو الذي قدمه الممثل إبراهيم عيسى، بتأديته شخصية “الصحفي والكاتب المهزوم”، لقد استطاع أن يُبقي المستوى العالي للأداء مشدودا، طوال فترة العرض، دون تراخي، على المستوى الحركي واللفظي، وعلى الضبط الصحيح لإيقاع الشخصية، المنسجم مع ظروفها الصحية والاجتماعية، وقد لا أبالغ إذ أقول، بأن الأداء الذي قدمه إبراهيم عيسى في عرض “ديستوبيا” دمشق-2022، على خشبة مسرح الحمرا، سيبقى نقطة فارقة في سيرة تلك الخشبة، وما حملته من عروض مسرحية كثيرة، أيضا الأداء المناسب، وهو ما قدمه الفنان المسرحي غسان الدبس، في شخصية “مالك المزبلة”
“ديستوبيا” الذي تايعه جمهور دمشق المسرحي مؤخرا على خشبة مسرح “الحمرا”، بمناسبة “أيام الثقافة السورية” وهو من إنتاج وزارة الثقافة، مديرية المسارح والموسيقا، يحكي قصة أربعة أشخاص، جمعتهم ظروفهم الشخصية القاسية، وما عانوه جراء تعرضهم لعنف اجتماعي منوع، في مزبلة، إلا أنهم استطاعوا بما لديهم من قدرة على الحياة، إيجاد قواسم مشتركة فيما بينهم، رغم أنهم يعودون لخلفيات اجتماعية وثقافية مختلفة، وبالتالي استطاعوا نقل مفهوم الحياة التي يفضلون، بعد تجاربهم الحياتية المعاشة، الحياة دون نفاق أو زيف أو طمع حتى في المشاعر الشخصية، ولو كانت هذه الحياة في مزبلة، وسيكون الحفاظ على هذه الحالة الإنسانية التي تجمعهم، هدفهم جميعا، فهي حق من حقوقهم التي يؤمنون بها، كما أن الحفاظ عليها من واجباتهم، التي يؤمنون بها أيضا.
النص المسرحي المكتوب منذ قرابة الربع قرن، والذي أغرى العديد من المخرجيين المسرحيين العرب، بالاشتغال عليه وتقديمه على خشبات مسارح كل من السعودية، عمان، الإمارات العربية المتحدة، الكويت، الأردن، العراق، المغرب، ليبيا، الجزائر، وفي سورية أيضا على خشبة مسرح جامعة تشرين في اللاذقية، 2006، بقي محافظا على طزاجة اطروحته القائمة على التضاد القيمي للقيم نفسها، وهذا مفهوم، فالمدن العربية ورغم كل التطور العمراني والتقني الذي طال بعضها، إلا أنها لم تزل تحافظ وبشدة، على كل تلك الفروق الاجتماعية والثقافية، القائمة بين إنسان وآخر فيها، الفروق التي لا تسري عليها المفاهيم الإنسانية، ولا يوجد فيها معايير أخلاقية من أي نوع، سوى معايير من قبيل: القوة، المال، السلطة، النفوذ.
بالشكل استطاع مأمون الخطيب أن يقدم فرجة بصرية منسجمة مع قصة العرض، جاعلا من عناصر السينوغرافيا –الصوت، الإضاءة، الأزياء، الديكور-راويا موازيا للحكاية المسرحية، دون أن تكون متنافرة مع مجريات العرض، بل يمكن تلخيص وصفها بكونها “روح ديستوبيا” المتقلبة، المهووسة، الهادئة، المجنونة، إنها روح المكان وصورته في النفوس، ولا منجى من تقلباتها حتى هناك، في المزبلة.
تمّام بركات