الدور العابر.. والدور المستقر
يتنازع الحياة السياسية في بلدان المنطقة عاملان أساسيّان بارزان، أولهما: التمسك بالثوابت والمبادئ، وثانيهما: الاستجابة للضغوط الخارجية ولإملاءات الحلفاء بل الأسياد.
ولهذا التنازع أسباب تنبع من أهمية موقع المنطقة الجيوسياسي الذي صار عامل جذب مطامح الدول الكبرى، وهذا ما أربك شعوب المنطقة وحكوماتها وجعلها تُعلي من شأن العامل السياسي على حساب العامل التنموي اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً.. والأصعب من ذلك هو ما جعل مسألة السيادة فيها عرضة لتجاذبات متنوعة.
هذا الأمر كان محط اهتمام النظام السياسي في الدولة الوطنية العروبية في سورية مع قيام الحركة التصحيحية في 16 ت2 عام 1970، إذ اتبعت البلاد على مستوى النظرية والممارسة في سياساتها الإقليمية والدولية نهجاً تميّز بالحفاظ على الثوابت الوطنية والمبادئ القومية العربية، كان ولايزال نهجاً مستمراً ومستقراً دون افتقاد الديناميكية والحيوية في التعامل الإيجابي مع المتغيرات الذي لا يخلّ بالهوية والانتماء ولا بالمصالح الوطنية وقضايا الأمة الأساسية.
فنقلت الحركة التصحيحية سورية بعد عام 1970 من عوامل الاضطراب والاستجابة السريعة المنفعلة لتنازع المؤثرات الإقليمية والدولية، إلى دولة ذات سياسة واضحة وثابتة ودور فاعل في المنطقة والعالم، على عكس ما كانت عليه في الخمسينيات والستينيات، وقد استقرّ هذا الدور واستمرّ وكان من تجلياته رفض الرئيس الأسد عام 2003 ورقة الشروط “الإملاءات” الأمريكية التي تقدّم بها كولن باول. وتستمر هذه التجليات اليوم في الأزمة التي تعيشها البلاد والمنطقة، بل العالم أيضاً. إذ لا يمكن للنظام السياسي في سورية أن يهادن أبداً المشروع الصهيوأطلسي الرجعي العربي خاصة بلبوسه الإرهابي الفتنوي الراهن، على حساب المشروع الوطني والعروبي المقاوم الصامد.
بينما نجد السياسات المراوغة والمتذبذبة عند بعض حكومات المنطقة تتجه في كل مرحلة اتجاهات متعددة ومتباينة تخور وتئن تحت وطأة السيد الأمريكي تارة والإسرائيلي تارة أخرى، وأحياناً تحت القلق من الضغط الشعبي لتمثل دوراً عابراً ضحلاً لا أصالة فيه للهوية والانتماء. سياسات تفتقد الاحترام والأخلاق والشرعية، تقوم على الكذب والنفاق ودعم عامل التدخل الأجنبي وصولاً الى دعم التكفير والإرهاب والخراب العام. والمثال الأبرز هنا سياسات آل سعود، ومن يسير في فلكهم من الحكام وهم لا يهزّهم الخجل ولا الحياء ولا الكرامة مع تعرّضهم مرة بعد أخرى لخذلان حلفائهم وأسيادهم.
في الذكرى الثالثة والأربعين للتصحيح المجيد، وفي خضمّ الأزمة التي تعيشها البلاد والأمة، وكذلك الأحزاب والمنظمات الوطنية والعربية، نستشعر جميعاً الحاجة الملحّة الى خطاب جديد، وبنى تنظيمية مغايرة، وإلى نظرية وممارسة تأخذان بالحسبان المفرزات الصعبة اجتماعياً وسياسياً وروحياً وثقافياً واقتصادياً، مفرزات اقترنت بانفجار حزبي، وبتذرّر اجتماعي، وتشظّ في الفكر والهوية والوعي.
ولطالما كان روّاد البعث قادرين في رؤيتهم ونظريتهم المتكاملة على التعامل مع هكذا تحديات على الساحة الوطنية، وعلى الساحة العربية، وكان لسورية دور تاريخي مشهود في هذا المجال لايزال يتطلع إليه الشارع العربي الذي يعرف كل فرد فيه من هو “قلب العروبة النابض” فيراهن عليه، وستثبت الأيام أن هذا الرهان صحيح ورابح.
فالتصحيح بين الدور العابر، والدور المستقرّ، بحاجة الآن الى جديد أو تجديد تستدعيه الأزمة، وعلى حزب البعث الذي راوحت تجربته وخبرته بين النضال السري، والحزب القائد في المجتمع والدولة، والحزب الحاكم بأغلبية برلمانية أن يجيب اليوم على تساؤلات ولّدتها الأزمة ومن أهمها مظاهر تصدّع القواسم المشتركة التي أسست خلال 40 عاماً لعقد اجتماعي وسياسي وطني بين القوى السياسية أحزاباً ومنظمات ونقابات..
ومنها أيضاً انهيار مفردات الخطاب الفكري والسياسي الجامع والحامل للوحدة الوطنية والمجتمعية في البلاد أمام أجيال طالعة تعيش شرائح واسعة منها نكوصاً مريباً ليست هي المسؤولة عنه، بل المسؤول عنه مَن فرض ويفرض عليها خطاب القرن الماضي، إن لم يكن خطاب القرون الماضية، ولا يدرك أن الخطاب العالمي والمعولم لأجيال المستقبل تجاوز “عصر الحداثة”، وكذلك “عصر مابعد الحداثة” قبل عام 2000، العام الذي يجب أن يُشتغلَ منذ الآن على خطاب جديد لمن وُلِد فيه ولمن وُلِد من بعده.
والحقيقة أن بعض المنعكسات السلبية والقويّة للأزمة ومنها التقارب الرجعي “السعودي” الإسرائيلي.. ومنها أيضاً قلّة اقتران الحديث عن نظرية المؤامرة بالحديث عن قصور العامل الذاتي.. تتطلب تفقّد مَواطن الشيخوخة – في الفكر وليس في العمر-.
وعلى ما يظهر فإن هكذا مسائل وغيرها حاضرة في عمل قيادة حزب البعث الجديدة. وجماهير الشعب والحزب على أمل معها يُسعى إليه بجد.
بقلم الرفيق الدكتور عبد اللطيف عمران