الملحن صديق دمشقي: في الأزمات لا صوت يعلو فوق صوت الوطن
ابن بيئةٍ شاميةٍ عريقة.. خرج من بيوتها الدمشقية القديمة التي تعبق في ردهاتها رائحة الياسمن عشرات الشعراء والمطربين والموسيقيين الذين وصل صدى أعمالهم إلى أقصى انحاء المعمورة كشاعرنا الكبير نزار قباني والملحن سهيل عرفة وعبد الفتاح سكر والمطربة كروان وغيرهم الكثير ممن لا يتسع المجال لذكرهم جميعاً، من هذه البيئة وهذا الياسمين الذي أنتج ما انتج من الأقلام الفذة والألحان العبقرية، والأصوات التي لمع بريقها فأضاء، ولدت ريشةُ مبدعة لعازفٍ أصبح فيما بعد ملحناً معروفاً لا يُشق له غبار، بعد أن كان يوماً طفلاً يجوب أزقتها وشوارعها القديمة ليسمع صوتاً ولحناً يطلقه مذياعٌ من هنا أوهناك، لكنه ما لبث أن دخل عالم الاحتراف ليبدأ بحصد الجوائز الواحدة تلو الأخرى ويطلق في عالم الأغنية السورية لحناً إثر آخر، ولازال حتى الآن يعطي ويعطي حاملاً على كاهله عبء الوطن والإنسان، خاصةً في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها بلادنا الآن، إنه الفنان والملحن السوري الكبير صديق دمشقي ومعه كان هذا الحوار:
في البداية أهلاً بكم ضيفاً عزيزاً على صفحات ( البعث) أستاذ صديق وحبذا لو نسترجع معاً شريط البدايات والبيئة التي عشتم فيها ومدى تأثيرها في تكوين شخصيتكم الفنية؟
في مدينه دمشق وفي بيت يتنسم رائحة الموسيقى نشأت، فوالدي كان يحب الموسيقى ويعزف على آلاتي العود والقانون، ومن قبله جدي كان صاحب صوتٍ جميل يجيد أداء الأدوار والموشحات والقصائد القديمه، تأثرت بوالدي وجدي ومنذ سني طفولتي الأولى كنت محباً للفن والموسيقى، فتعلمت العزف على آلة الأكورديون، وشاركت في الحفلات الفنية المدرسية، وكانت لي عدة محاولات في تلحين بعض الأناشيد التي تحفّظ للطلاب في المدرسة دون أن أعلم أن هذا الشئ اسمه تلحين، وفي عام 1972 ابتعدت عن الموسيقى بعد سفري الى القاهره للحاق بوالدي الذي نقل عمله الى مصر، وهناك ازداد شغفي بالموسيقى خاصةً بعد لقائي المباشر مع كبار عمالقة الفن والموسيقى، وكنت حينها بعيداً عن العزف بحكم انشغالي مع والدي في ادارة اعماله، بعدها عدت إلى سورية لأداء خدمة العلم، وعدت إلى أصدقائي في المدرسه لأجد أغلبهم قد احترف الفن، فشجعوني كثيراً على دراسة الموسيقى والعودة الى المجال الفني، وفعلاً عدت الى دراسة الموسيقى والتمرين على العزف، ودراسة المقامات الموسيقية العربية من خلال كتب الموسيقى، وكل مايتعلق بالموسيقى من مقامات موسيقية وإيقاعات شرقية كوني تجاوزت سن الانتساب الى المعهد الموسيقي آنذاك، وفي عام 1979 انتسبت الى نقابة الفنانين، ثم في عام 1984 سجلت أول ألحاني في إذاعة دمشق للمطرب جهاد سمعان واعتُمدت منذ ذلك الحين ملحناً لدى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون السوري.
بعد ثلاثين عاماً من العطاء ما هي أبرز أعمالكم؟ وما هو الأسلوب الفني الخاص الذي يميزكم؟
لحنت لمعظم المطربين والمطربات السوريين، وقمت بالتوزيع والتنفيذ الموسيقي للعديد من الأعمال الغنائية في إذاعة دمشق التي تجمع الى جانب الأغنية العاطفية والشعبية والوطنية عشرات التواشيح الدينيه، و بالنسبة للأسلوب لكل ملحن حسه الفني وأسلوبه الخاص الذي يميزه في صياغة اللحن عن بقية الملحنين، واشكر الله أني وضعت بصمتي الخاصة بين عمالقة الموسيقى السورية ممن أعتز بشهادتهم، كالملحنين عبد الفتاح سكر وسهيل عرفه وراشد الشيخ وابراهيم جودت وغيرهم.
إذاً ما هو الأساس الذي تنطلقون منه في تحديد هويتكم الفنية؟ وأي الأغنيات تعتبرونها أهم ألحانكم؟
الهوية الفنية تفرضها الأعمال المقدمة من أغان أو موسيقى أو توزيع، وبالتأكيد الهدف صياغة لحن يناسب الكلمات والصوت الذي أرغب في تقديمه، ويعود ذلك أولاً وأخيراً الى التوفيق من الله، وفي الواقع جميع الأغنيات التي قمت بتلحينها تحتل مكانة خاصة في قلبي، إلا أن هناك بعض الأغنيات لاقت حقها من الاهتمام والإعلام أكثر من غيرها، كان اشهرها أغنية (ضوي ياقمر) لهالة الصباغ وأنشودة (ملايين ملايين السوريين) التي يرددها السوريون في مختلف المناسبات الوطنية .
ماذا عن مشاركاتك الفنية في المهرجانات والجوائز التي حصلت عليها؟
سجلت مشاركاتٍ هامة في العديد من مهرجانات الأغنية المحلية والعربية ففي عام 1997 حصلت على جائزة أفضل لحن مع أول مشاركة لي في مهرجان الأغنية السورية الثالث عن أغنية (ارجع لي ياحبيبي) من كلمات الشاعر سعدو الذيب وغناء الفنانة كنانه القصير، وفي عام 1998 حصلت على جائزة الأورنينا عن أفضل لحن في مهرجان الأغنية السورية عن أغنية (كبروا البنيات) كلمات الشاعر أحمد نعمان وغناء الفنانة رولا ورد، وفي عام 2002 حصلت على الجائزة الفضية من المهرجان التاسع للإذاعة والتلفزيون في القاهرة عن أنشودة (القدس لنا) كلمات منير الملط وأداء مجموعة منشدين، وفي عام 2004 حصلت على لقب حاصد الجوائز بفوزي بالجوائز التالية من مهرجان الأغنية السورية العاشر الجائزة الأولى (الأورنينا الذهبية) لافضل أغنية أطفال بعنوان (سندريلا) من كلمات الشاعر أحمد نعمان وأداء الطفلة غزل الهندي، والجائزة الثانية عن أفضل أغنية متكاملة بعنوان (دعني في عينيك أسافر) للشاعر الغنائي الراحل أحمد قنوع وغناء أمجد رحال، وجائزة أفضل لحن عن أغنية بعنوان (الكلمة والسيف) كلمات حنا كامله وغناء ورود إبراهيم.
كيف تنظر إلى مسيرة الفن في سورية و مراحل تطورها؟ وبأي عينٍ تنظرون الى الإعلام الوطني؟
مسيرة الفن في سورية غنيه بما قدمته خصوصاً على مستوى نجوم الغناء العربي الذين انطلقوا من سورية كفيروز ووديع الصافي حيث كانت إذاعة دمشق الولادة الحقيقه للفن الغنائي العربي، لكنها الآن و للاسف فقدت هذا الدور، ونأمل بعد كل ما لمسناه من تقصيرٍ في دور الإعلام الوطني خاصةً المرئي في رعاية الفنانين السوريين، والإهتمام بهم وتعويم أعمالهم، ونتمنى استعادة الاذاعه والاعلام السوري المرئي لدورهم في رعاية الفنان السوري إلى ما كان عليه سابقاً، وبالتالي إيلائه كل ما يستحق من الرعاية والإهتمام لاسيما وأن سورية من أكثر البلدان العربية الزاخرة بالمواهب والنجوم.
تمر بلادنا الآن بأزمةٍ مركبة كان لها انعكاسها على الفن كما غيره من مناحي الحياة الأخرى، فأيُ دورٍ تعطونه للفن للمساهمة في الخروج منها ومن ثم تكوين ثقافةٍ ووعيٍ جديدين للإنسان السوري بعدها؟
بالطبع كان للأزمة انعكاسها الواضح على الفن، وقد ظهر ذلك من خلال التركيز على الأغنية الوطنية التي يفترض في ظروفٍ مشابهة لهذه الظروف أن لا يعلو صوتٌ فوقها، فظهر الرث وظهر الثمين، إذ كان بعضها جيداً ويستحق المتابعة، لكن أغلبها لا يمت للاغنيه الوطنيه بصلة، لأنه وكما هو معروف لكل لون من الغناء قواعده وأصوله وللأسف في ظل هذه الحاله اختلط الحابل بالنابل، وأصبح الغناء (شغلة اللي ماله شغله) وكأنها فرصة للوصول إلى آذان المستمع الذي يشارك، ودون أن يدري بتدني مستوى الأغنيه السورية نظراً لكون أغلبهم بات يفتقد للثقافه الموسيقية والسمعية، خاصةً بعد أن اصبحت لغة العين وثقافة الفيديو كليب تحصد جلَّ اهتمامهم، وهنا يتوجب على جميع الفنانين السوريين الوقوف صفاً واحداً لإنتاج رتمٍ جديدٍ من الأغنيات التي تعبر عن حال الشارع، وتقرب وجهات النظر بين السوريين، لأن الفن هو اللغة الوحيدة التي يتفق عليها الجميع، وبالتالي فإن مهمة النهوض بالشارع السوري لتخليصه من أدران الأزمة، ومشاهد الدمار التي أرهقت ناظريه تقع بالدرجة الأولى على الفن، لكن لابد أيضاً من تفعيل دور الإعلام ليكون حلقة الوصل بين الفنان والمتلقي.
تعاني صناعة الأغنية السورية الناجحة جملة صعاب حبذا لو نقاربها ونعطي حلولاً للخروج بها من عنق الزجاجة؟
بعد الكلمه واللحن والصوت يعتبرالتنفيذ الموسيقي أحد أهم أسباب صناعة الأغنية الناجحة، لكنه أصبح يشكل الآن عبئاً كبيراً على المطربين نظراً للتكاليف الكبيرة في ظل الغياب شبه الكامل لشركات الإنتاج، فالشركات بحاجة لحماية انتاجها والمشكلة الكبرى التي تقف عقبةً في طريق انطلاق مثل هكذا شركات، هو اقتصار حماية الأعمال الغنائيه المنتجة على قانون حماية الملكية الذي لم يأخذ دوره حتى الآن وبقي حبراً على ورق، فقمنا من خلال جمعية المؤلفين والملحنين السوريين التي تم تأسيسها للقيام بهذا الدور أن نعمل على رعاية صنّاع الأغنيه السورية، لكننا لم نفلح كون سورية غير منتسبة حتى الآن للجمعيه العمومية للمؤلفين والملحنين (السيسيم) وهنا نطالب جميع الجهات ذات العلاقة بالعمل الجاد والدؤوب لتسجيل سورية في هذه الجمعية، كي يتسنى للراغبين والمهتمين بصناعة الأغنية السورية أخذ دورهم على أكمل وجه، وبالتالي استقطاب المزيد من شركات الإنتاج لتبدأ نشاطها في سورية.
إذاً ماذا تقترحون لنعيد البريق إلى الأغنية السورية؟
المقترحات كثيره ولكن أهمها رعاية إنتاج الأغنية والاهتمام بها إعلامياً، لأن هناك حلقةً مفقودة بين الأغنية والإعلام لابد من إيجادها لتكتمل سلسلة الفن في سورية، ويجب قبل كل شيء رعاية المواهب الشابة وصقلها والاهتمام بها فنياً ومادياً، إذ لم تعد الموهبة تكفي وحدها في ظل هذا البحر المتلاطم من الانتاج، وهنا نعوّل كثيراً على دور الإعلام.
وما مشاريعكم الحالية؟
أحضّر حالياً لأغنيه وطنية للمطربة نانسي زعبلاوي بعنوان (قلب الشام) من ألحاني وكلمات الشاعرة سهام شعشاع، وهناك تحضير لتسجيل موسيقى سماعيات شرقية وهو قالب موسيقي راق ومهم جداً وللأسف سنفقده في موسيقانا العربية. يدعي البعض أن زمن الأغنية السورية قد ولى فكيف تردون..؟!!!
لقد خرجت سورية عشرات المطربين و الموسيقيين الذين تركوا بصمةً لا يمكن محوها على امتداد الساحة العربية أمثال فهد بلان و فؤاد غازي و مها الجابري وكروان وربا الجمال وقبلهم رفيق شكري ونجيب السراج لكن العتب الأكبر يقع الآن على الجمهور الذي انساق وراء الثقافة البصرية على حساب الفن الجيد والأصيل، خاصةً بعد أن انجرف الكثيرون منهم وراء مقولة (مزمار الحي لا يطرب) والكل بات يريد أن يدبك ويرقص على كل أغنيه لدرجةٍ أصبح نجاح الأغنية مرهوناً بمدى صلاحيتها للرقص والدبكه والزمر.
البعث ميديا – البعث